عندما نعود الى مسيرة الحكم عبر تاريخنا سنلاحظ تذبذب السلطة بين النجاح والفشل، أما النجاح فهو من صنع الحكام العظماء، وأما الفشل فهو نتاج الحاكم الضعيف أمام نفسه التي تأمره بالفساد وتجعله في موقف لا يُحسَد عليه، فالقائد السياسي عبارة عن مجموعة من الأخلاقيات والقيم التي يؤمن بها، ويطبقها في عمله القيادي وحياته عموما، منها حرصه على ثروات الشعب وتعليمه وترفيهه والصعود بمستوى حياته الى الأفضل دائما، وكلما كانت هذه القيم أقرب الى الخير والصلاح، كلما كان أداؤه القيادي سليما عادلا مفيدا لجميع الناس، والعكس يصح بطبيعة الحال، في الحكومات الإسلامية المعاصرة هناك خلل واضح في القيادة، إذ يمكن التمييز بين أداء الحاكم الإسلامي المعاصر والحاكم الإسلامي في صدر الرسالة، فقد كانت القيم العظيمة تحكم أولئك القادة، ولهذا السبب حققوا الانجازات المشهودة في تأريخ الدولة الإسلامية.
إن القول بفشل الحاكم الاسمي اليوم يستند إلى أدلة قاطعة، قوامها الواقع المؤلم والمؤسف لعموم المسلمين، حيث يقبع المسلمون اليوم في الجهل والتخلف وضياع الحقوق، مقابل حكومات وحكام لا يهمهم من الدنيا سوى الحفاظ على مناصبهم ومصالحهم وبطانتهم، فيكنزون المال ويشترون العقارات داخل وخارج بلدانهم تصل قيمتها الى مئات المليارات من الدولارات، في حين يرزح تحت خط الفقر والجهل، مئات الملايين من المسلمين، من دون أن يفكر الحاكم الإسلامي بواجبه تجاههم.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته القيمة حول أهمية تصفّح سجلات التاريخ:
(كان أمير المؤمنين عليه السلام أكبر حاكم على وجه الأرض، وكان يحكم أكبر دولة على وجه البسيطة في ذلك اليوم، ولكنه لما استشهد عليه السلام كان مَدينا، هل سمعتم بحاكم وزعيم يموت مَدينا؟!).
ولنا أن نتصور ماذا يحدث عندما يموت الحاكم الإسلامي مدينا، مع أنه يحكم أكبر دوله في العالم في وحينها، فإن هذا الأمر يشكل دليلا قاطعا على عظمة هذا الحاكم، وسموّه وعظمة نفسه وقوة إرادته تجاه مغريات السلطة، فهذه الإرادة وحدها ستقيه من الانحراف، وعلى حكامنا اليوم أن يدرسوا التاريخ المشرق جيدا ويتعلّموا كيفية التعامل مع مغريات السلطة، لأن نجاح الحاكم وفشله يكمن في طريقة تعامله مع هذه المغريات كالأموال الضخمة والجاه والنفوذ.
لهذا يذّكر سماحة المرجع الشيرازي حكام اليوم بنموذج الحاكم الفريد فيقول:
(إن رئيس اكبر حكومة على وجه الأرض، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يموت مدينا وليس عنده شيء، ولذلك ظل الإمام الحسن عليه السلام مدة مديدة وهو يسدد ديون أمير المؤمنين عليه السلام). ويقول سماحته أيضا: (إن هذه الأمور بحاجة الى تأمّل، وعلينا أن نقتدي بهؤلاء الأطهار عليهم السلام).
المبادئ وأسلوب الإقناع
لابد أن يفهم حكام اليوم أنّ هنالك مبادئ ينبغي أن يتمسكوا بها لكي يصبحوا فعلا من الحكّام الناجحين ويتحاشون الفشل الذريع، من هذه المبادئ عفّة النفس، وإبقاء اليد بيضاء والقلب مؤمن والنفس ومغرياتها مطفأة، ومن خصال الحاكم الناجح قدرته على العفو عن ألد أعدائه، وهي حالة قلما وجدناها لدى حكام اليوم، حيث القتل والبطش والإعدام الذي يطول المعارضين لأتفه الأسباب، فضلا عن استئثارهم بالمال العام، وغياب مبدأ العدالة في التعامل مع أفراد الأمة.
وعلى حكام اليوم المنتمين للإسلام، والذين يعلنون انتماءهم هذا جهارا نهارا، أن يدرسوا سيرة الحكام العظماء، وكيف كانت نفوسهم تربأ عن التدنيس وتترفع عن الصغائر، ومن أروع ما كانوا يتحلون به هو عدم إجبار الناس على شيء يقع خارج المألوف والمتعارف من الشريعة والقانون، فكان مبدأ حرية الاختيار من السمات والخصال العظيمة لقادة الإسلام الأوائل كالرسول الأكرم (ص) والإمام علي (ع)، فليس هناك قسر ولا إجبار، بل هناك فكر ومبادئ وإقناع، وحرية تامة في الخيارات المتاحة.
لإثبات هذا الأسلوب الناجع يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(كان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم- يهدي قومه وينصحهم، ويوضح لهم طريق الرشد، ويميزه عن طريق الغي، ثم يترك الاختيار لهم).
فبالإضافة الى حسن التعامل مع الأمة، واعتماد الإنصاف في ذلك، هناك أيضا مبدأ عدم الإكراه الفكري أو المادي، فنلاحظ بخصوص تعامل الحكام العظماء في أول الإسلام، هو منحهم حرية اختيار الدين او الفكر او المعتقد، فالإنسان حر في ذلك، وليس هناك قسر ولا إجبار مطلقا، فقد تم الابتعاد كليا عن منهج الإكراه، أو فرض الفكر الحزبي أو سواه، وهذا في الواقع درس عظيم لقادة اليوم، سواء من الحكام أو قادة الأحزاب أو غيرهم من المسؤولين، يعلّمهم كيفيه التعامل وفق هذا المبدأ العظيم مع الجميع من دون استثناء.
وقد أورد سماحة المرجع الشيرازي مثالا من السيرة النبوية العظيمة فقال: (لقد ردّ النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم- عشرات الحروب والاعتداءات التي شنها أهل الكتاب، دون أن يجبر أحدا منهم على الإسلام).
درس كبير لحكّم اليوم
إن الدرس الذي سيجده حكامنا وقادتنا السياسيين اليوم في سيرة حكام الإسلام من العظماء، سوف يساعدهم على تجاوز أخطاءهم مع المال وتوفير الخدمات والحاجات الأساسية للناس وغير ذلك مما يتطلب العدل والسمو فوق مآرب النفس الضعيفة، وهذا تحديدا ما تنقله لنا وثائق التاريخ، فإذا كان التعامل مع الآخر يتم بهذه الطريقة المتحضرة، فمن المؤكد أن التعامل نفسه يتم مع الجميع، وهكذا تتوافر خصال العفو والحكمة والرحمة واحترام الحريات في شخص الحاكم الإسلامي المتميز قديما، ترى هل يتمتع حكامنا اليوم بهذه المزايا والصفات؟.
لذلك على الأمة أن تقاوم الحكام الطغاة وحكوماتهم الغاشمة، بشتى السبل والوسائل المتاحة، وأن لا ييأسوا من صعوبة الطريق ومصاعبه، لأن النصر مكفول لمن يسعى الى إعادة الأمور صوب نصابها، وهذا هو ما ينبغي أن يعمل عليه الجميع، إذا لم يرتدع القادة الفاسدون، ولم تستجب الحكومات الفاسدة لمطالب الشعوب المشروعة.
من هنا يذكّر سماحة المرجع الشيرازي المؤمنين والمؤمنات بالتالي:
(لا ينبغي على المؤمنين والمؤمنات، أن يتزلزل إيمانهم من خلال ما نشاهده هذه الأيام، وعلى مر التاريخ من أحداث توجب إخافة بعض المؤمنين، بل عليهم أن يراجعوا القرآن الكريم ويقرؤوه ويتدبروا آياته ليروا أية مواقف نصر الله تعالى فيها المسلمون وكيف نصرهم؟!).
لذا فإن تغيير الأمور نحو الأفضل هو واجب جميع المسلمين والمؤمنين، خاصة إذا كانت الحكومات موغلة في إهمالها لجميع فئات الشعب وبالأخص البسطاء والضعفاء منهم، في حين تبقى منشغلة في مصالحها التي غالبا ما تأتي على حساب مصالح الرعية، وإذا توكّل المسلمون المؤمنون على ربهم، وسعوا بجدية وإخلاص نحو أهدافهم في نيل الحرية والحقوق المشروعة، فإن الله تعالى سيكون عونا لهم.
ولا ريب أن ذلك خارج الحسابات المادية والعقلية المتعارف عليها، أي سينتصر المسلمون حتى لو بدا لهم النصر بعيدا أو مستحيلا بسبب بطش بعض الحكومات وبغي الحكام الفاشلين المتمسكين بالسلطة ليس من أجل خدمة الأمة وتوفير حاجات الناس، وإنما من أجل أنفسهم وذويهم والمقربين منهم، لهذا على الحاكم الفاشل أن يغادر فشله الى النجاح وذلك عندما يتخذ من الرسول (ص) والإمام علي (ع) أسوة وقدوة يتعلم منهما طرائق الحكم المنصف، ومنع النفس من الوقوع في حبائل السلطة.
اضف تعليق