من أولويات الحياة الشخصية التي ينبغي أن يتابعها الفرد، هي تحديد واجباته تجاه الآخرين، وما الذي يترتب عليه في هذا الجانب، فهذه المهمة تفوق كل المهمات الأخرى، حتى تلك التي تتعلق بالمصلحة الذاتية، إذ من الخطأ أن يفضل الإنسان نفسه والمقربين له على حساب الآخرين، ليس معنى هذا أن لا يعتني الإنسان بنفسه والمقربين منه، بالعكس هذا الأمر مطلوب ولكن في الحدود المسموح بها شرعا وعرفا وقانونا، حتى نضمن عدم تجاوز أولوية الحفاظ على حقوق الآخرين.
ولذا تظهر في هذا الإطار محرمات، تكون أكثر وضوحا عند احتكاك المصالح مع بعضها، ومن أصعب الأمور التي ينبغي أن يحافظ عليها الإنسان هي عدم تقديم مصلحته على مصالح الأخير بدون وجه حق، فإذا كانت مؤهلات الغير أفضل منك لماذا تأخذ أو بالأحرى (تسرق) فرصة غيرك الأكفأ منك؟؟، من المحرمات المعروفة أن تسرق فرص الآخرين، قد يعترض بعضهم على تسمية (سرقة) ولكن ماذا نسميها إذا أنت أقدمت على وظيفة (لا تناسب اختصاصك ولا شهادتك ولا مؤهلاتك)، ولكن بسبب المحسوبية أزحت الإنسان المؤهَل لها وأخذتها منه، ماذا يمكن أن نسمي هذا الفعل؟، إذن على الإنسان أن يتنبّه جيدا الى وضع حد بينه وبين المحرمات.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في الكتاب الموسوم (من عبق المرجعية): (على كل فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؟ وما هي الواجبات المترتبة عليه؟ وما هي النواهي والمحرّمات التي ينبغي له الانتهاء عنها؟).
ولا يتعلق هذا بواجباتنا ومراعاتنا لحقوق الغرباء فحسب، وإنما ينبغي مراعاة حقوق أقررب الناس إلينا، كأفراد الأسرة، الزوجة والابن والأب والأم وهكذا، وعندما تسود ثقافة من هذا النوع في المجتمع، فإننا نكون قد أسمنا في صناعة مجتمع متحضر متّزن مثابر ومبدع.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (على كل فرد منّا أن يعرف ما هي الواجبات بحقّه؟ وما هي المحرّمات عليه؟ فعلى الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه عائلته، وتجاه الآخرين. كذا المرأة عليها أن تسعى لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع).
الفوز بملَكة ضد التخلف
ولكن ما هي السبل التي تمكّن الإنسان من تجنّب الحرام، لاسيما أن النفس الأمارة ترغب به وتدفع نحوه بعد أن تلوح لها الإغراءات والملذات، فلابد والحال هذه أن يحتمي الإنسان بمنظومة قيم تبعد عنه خطر السقوط في الهاوية، هذا يتطلب منه السعي وراء الحصول على ملَكة تحميه وتصونه من اللهاث المحموم وراء المحرمات، ومن الممكن أن يتحقق ذلك بالمثابرة على تحصيل العلم والجدية في ذلك واغتنام أية فرصة للتعليم وتطوير القدرات الفردية.
وعندما يتمكن الفرد من تجاوز الخطوة الأولى والأهم، وهي كسب الملكة، عليه بعد ذلك خطوة أخرى لا تقل أهمية عن الخطوة الأولى، ألا وهي تعليم الآخرين كيف يمكنهم أن يحصلوا على الملكة التي تصونهم من ارتكاب الحرام، وهو قادر بالفعل على تعليم الناس، لأنه خبر سبل الحصول على الملَكة وما عليه سوى أن يعلم الآخرين كيفية الحصول عليها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذه النقطة: (على كل فرد منّا, سواء كان رجلا أو امرأة، شابّاً أم شيخاً، من أهل العلم أم كاسباً, أن يحصل على ملكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات أو التخلّف عن الواجبات، ثم عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته).
ولكن تعليم الناس لا يعني إهمال النفس وتطويرها، بل ينبغي على الإنسان أن يستفيد من حياته الى أقصى حد، وأن يساعده ذلك على التصرف الصحيح، فحين تنتهج خطّاً صحيحا في حياتك، هذا سوف يجنبك ارتكاب الأخطاء، ويقلل من ذنوبك أمام الله والناس، لهذا حري بكل فرد أن يتنبّه الى هذه النقطة، وعليه أن يبذل قصارى جهده من أجل أن يحصل على الهداية أولا، فهي السبيل الأقوى الذي يصونه من الوقوع في منزلق الانحراف، وبالتالي سيكون عرضة للحساب أمام الله تعالى، من هنا فإن مثابرة الإنسان لصيانة النفس وتعليمها وتدريبها وتطويرها وحمايتها من المنزلقات الخطيرة، واجب ينبغي أن يكون من بين أهم ما يقوم به الإنسان في حياته.
لذا ينصح سماحة المرجع الشيرازي بأهمية التصرف الصحيح للإنسان، فيقول: (تصرّف أنت بالنحو الصحيح واستفد من حياتك بصورة صحيحة ولا يهم بعد ذلك إن كان قد استفاد الآخرون منك ومن تعاملك معهم أو لا؛ فإن الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم)، ولا توجد عبارة أكثر صراحة من هذه الآية في لزوم ضبط النفس وكظم الغيظ).
تشجيع النقد لتطوير القدرات
وعلى الفرد أن يبحث عن الطرق والسبل الناجعة لتطوير قدراته الذاتية، وعليه أن يطرح الأسئلة دائما على نفسه وعلى المقربين العارفين بأمور الحياة، السؤال الدائم هو كيف أطوّر نفسي واحميها من التجاوز على حقوق الناس، كيف أقوم بواجباتي على أفضل وجه، كيف أصنع شخصيتي بطريقة متوازنة وناجحة مجتمعيا وعمليا من دون إلحاق الضرر بالناس؟
هذه الأسئلة وسواها الكثيرة ينبغي أن تجد الإجابات عنها حتى تنجح فعلا في حياتك، فكيف تحصل على الفوائد والأفكار التي تساعدك على النجاح والتوفيق، نعم هنالك طريقة ومضمونة يمكنك الاستفادة منها وهي (النقد)، عليك أن تتقبل النقد من الآخرين لتصحيح أخطائك، وعدم رفض ذلك، خصوصا إذا كان مصدر النقد حيادي ولا يقصد إلحاق الأذى بك، أو يريد تشويه السمعة، فهذا النوع من النقد الهدام معروف للجميع.
الذي نريده هنا هو النقد الجيد، المنطلق من النفوس والنيّات السليمة، لذلك علينا أن نقبل النقد من هذا النوع، بل يجب أن نشجع الآخرين على تقديم الانتقاد لأفكارنا وأفعالنا حتى يمكن القيام بتصحيحها، ففي كثير من الأحيان يكون الناس مرآة لك يمكن ترى من خلالهم أخطاءك وتقوم بتصحيحها، وهذا لا يتحقق إلا بقبولك للنقد.
فيطالب سماحة المرجع الشيرازي بتطبيق هذه النقطة ويقول: (لندع الآخرين ينقدوننا ونشجّعهم على ذلك، ثم نطوّر قابلياتنا بالاستفادة من وجهات النظر الصحيحة من بينها).
إن حياتنا عبارة عن مدرسة، ونحن طلاب فيها، فعلينا الاعتبار قبل فوات الأوان، لأن أنجح الناس هو الذي يتعلم من أخطائه، ولا يصر عليها بسبب (العزة بالإثم)، نعم هناك من يخطئ أفدح الأخطاء أمام الملأ، ولا يريد أن يعترف بذلك، بل يصر على أخطائه مخافة أن يعرف الآخرون بذلك، ولكن عليك أن لا تنسى أن (الاعتراف بالخطأ فضيلة).
لهذا من الأفضل للإنسان أن لا يتهرّب من أخطائه، ولا يدافع عنها أو يتمسك بها كأنها عين الصحيح كما يفعل أصحاب (العزة بالإثم) أي التمسك بالخطأ وعدم الاعتراف به.
وأخيرا هناك فرصة أمام الإنسان يمكنه استغلالها قبل فوات الأوان، فعلينا احترام حقوق الآخرين، والقيام بواجباتنا، وتجنب الحرام بكل أشكاله، والفرصة لا تزال قائمة ولكن علينا اتخاذها قبل فوات الأوان.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (لنعتبر قبل فوات الأوان، وقبل أن نكتشف أنه لات حين عبرة، ولنأخذ الدروس من قصص الآخرين).
اضف تعليق