ما هو موقع القيم بالنسبة للمجتمع، أي مجتمع كان، وهل يمكن أن نتخيل مجتمعا متقدما متميزا على الصعيد العالمي في التفكير والسلوك والعيش وهو لا يمتلك منظومة قيم يسير في هدْيها؟، بالطبع محال أن يحدث ذلك، وهذه هي حصيلة التزام أمة ما بالقيم، فالأخيرة هي الطريق المضمون الذي يجعلك تصطف الى جانب الأمم المتقدمة بجدارة، ولا يمكن أن يتمكن أحد أو جهة من عزلك أو إبعادك عن هذا الموقع المتفرد.
ينطبق الشيء نفسه على الأفراد، فمن يتمسك بالقيم والأخلاق نراه دائما في مقدمة الناس في النواحي كافة، فهو صاحب مكانة مرموقة في المجتمع، وذو شخصية متميزة فاعلة ومؤثرة، كما أن الجانب الاعتباري له يكون في القمة دائما، لماذا؟، لأن القيم التي يتمسك بها الإنسان تحميه من الزلل أو الانحراف من أي شكل أو نوع كان، كما أنها تجعله قريبا من الناس محبا لهم وهم في المقابل يحبونه ويحترمونه، ولنا أن نتصور مجتمعا أناسه جميعهم من هذا النوع، إننا في هذه الحالة نحصل على مجتمع نموذجي مُصان بالقيم التي لا تزول.
من أهم ما تتميز به القيم أنها باقية لا تزول، على عكس كل الامتيازات والثروات الأخرى، فهي جميعا قابلة للزوال، أما الصفة الأروع للقيم فتكمن في كونها أزلية، فهي باقية ما بقيت البشرية على قيد الاستمرارية.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في إحدى كلماته القيمة: إن (القيم هي التي تبقى ولا تزول، والتي لا تبقى ليست بقيم. فجبال الذهب ليست قيم، ورئاسة الحكومات ليست قيم، والشخصية ليست قيم).
ولكن حصول الإنسان على القيم والتمسك بها والإيمان بفحواها وتطبيقها أمر ليس سهلا، بل هو من أصعب القضايا والأهداف التي تواجه الإنسان وهو يسعى للوصول إليها، ولا يمكن أن يتحقق له ذلك من دون توافر شروط مهمة يقف في المقدمة منها (الصبر)، فحتى يكون الإنسان قادرا على كسب القيم وتشكيل شخصيته وتفكيره وسلوكه وفقا لمعيار منظومة القيم، عليه أن يتحلى بالصبر والمثابرة والسعي الحثيث نحو أهدافه، قد تكون هنالك مشكلات قوية في طريق الإنسان، لكنه في جميع الأحوال مطالَب بالصمود والمثابرة والتحسّب والحذر.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا حول هذا الموضوع: (متى أيقنّا أن طريق الأخلاق صعب وشائك، وشعرنا في كل آن أنّه بحاجة إلى تفرّغ ومثابرة وصبر، بل واستمداد من الله قبل ذلك كلّه، وأنّ علينا أن نحذر الانزلاق دوماً، نعلم حينئذ أننا بدأنا بسلوك الطريق) الصحيح.
حصيلة نكران الذات
هكذا يتوجب على كل فرد يبتغي النجاح في علاقاته وعمله ومشاريعه من أي نوع كانت، أن يضع في حساباته كسب الآخرين من خلال إظهار التعاون الجاد معهم، على أن يبدأ أولا في تذليل المصاعب التي تواجههم، وفي تقديم الآراء السديدة لهم، وتقديم حقوق الآخرين على مصالحه، نعم من حق الإنسان أن يحرص على مكاسبه وأن يطورها، ولكن الأفضل أن يتحلى بنكران الذات، فهذه القيمة هي نتاج بارز للإيمان بالقيم الأخلاقية التي تحصّن الفرد وتحميه من أي نوع من الاعوجاج.
لهذا لوحظ في المجتمعات المتقدمة بروز احترام الناس لبعضهم البعض، والتعاون المتبادل على تذليل المصاعب ومواجهة المشكلات بنفس جماعي، مع بروز قيمة تفضيل الآخر على الذات، فتبدأ عند ذلك منظومة القيم تعطي أوكُلها، فيُصبح الجميع مترفعين على الصغائر، محميين من دناءة النفس، صابرين، أرواحهم سامية وتسمو بهم عاليا فوق الرذائل، يتحقق هذا عندما يتمسك الأفراد بالقيم والأخلاق ويبدون التعاون وينكرون ذواتهم من أجل الآخرين.
توجد كلمة حاسمة لسماحة المرجع الشيرازي تتعلق في هذا الموضوع، حيث يؤكد سماحته قائلا: (من ينكر ذاته يترفّع عن الرذائل).
أما في الجانب المعكوس، أي عندما يشعر الإنسان بحالة من اليأس، بسبب عدم قدرته على تحصيل القيم والأخلاق كما ينبغي، فإن هناك نتائج صعبة إن لم تكن خطيرة على شخصية الإنسان إذا شعر أنه يواجه مصاعب في التمسك بالقيم، ذلك أن فقدان القيم يعني ضرب الحصون التي تمنع النفس من الانزلاق في مسلسل مخيف من الانحرافات، لذا حين يجد الإنسان نفسه فاقدا للصبر وهو يحاول التمسك بالقيم، فإن حالة من الضبابية سوف تسود تفكيره وربما ينعكس الأمر على سلوكه أيضا، فتكون هناك حالة أشبه بالغرق في المجهول والتيه وعدم الاستقرار على يقين واضح ومحدد.
يحدث هذا بسبب عمق الأخلاق وطبيعة القيم المبدئية التي لا تقبل الخطأ، وصعوبة كبحها لنوازع النفس، لذلك يشعر الإنسان بالتيه وربما الضياع في المجهول، فعليه بالصبر إذا أراد الحصول الى القيم وزرعها في ذاته. لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي: إن (عمق المسائل الأخلاقية وعدم الوصول السريع إلى نتائجها يجعل المرء يشعر وكأنه غارق في المجهول).
الصبر والسموّ الروحي
لذلك من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان الذاهب الى القيم، الصبر والحكمة والصدق والوفاء بالوعود وكل القيم الأخلاقية التي تمنحه شخصية موثوق بها مجتمعيا، علما أن البشر الذي يسعى في هذا الطريق سوف يصل به الأمر الى حالة هائلة من السمو الروحي، ذلك أن القيم هي حالة معنوية اعتبارية وليست مادية، فهي تمنح الإنسان شعورا بالتوازن النفسي والقوة الروحية والإيمان والسعي لمنح الآخرين هذه السعادة التي يشعر بها، وكأنها تفيض عن حاجته فيتمنى أن يحصل عليها الآخرين كي يشعروا بالسعادة والسمو الروحي الذي يشعر به تماما.
لذلك يُقال أن الفوائد التي يجنيها الإنسان من تمسكه بالقيم هي ذات طابع غير مادي، كما أنها تنمو وتتصاعد على نحو تراكمي تدريجي، يصاحبها شعور باللذة الروحية التي لا يمكن أن تتحقق للبشر إلا بعد عناء كبير في سعيه نحو القيم التي تجعله إنسانا متفردا في إنسانيته وتفكيره وسلوكه حيال الناس جميعا.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على إن فوائد التمسك بالقيم و(نتيجة الأخلاق لا تلمس بسرعة، ولذّة الإحساس بالسموّ الروحي لا تحصل إلاّ بعد عناء وصمود).
وطالما يتحرك الإنسان وسط مجموع بشري يتحرك بأفراده جميعهم نحو مصالحهم، وهنا لابد أن يحدث نوع من المنافسة الشديدة لتحقيق الربحية أو المصلحة، وقد يتصاعد الأمر حدة فيتحول الى نوع من أنواع الصراع، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يخلو الأمر من ظلم وتجاوز أحد الأطراف على الآخر، من هنا يحتاج الإنسان الى قوة أخلاقية روحية كبيرة كي يكبح نفسه عن إلحاق الأذى بالآخرين والتجاوز على مصالحهم، نعم هنا تظهر فاعلية التمسك بالقيم، ويسمو البشر فوق الصغائر ويترفع عن أذية الناس مقابل مصلحة مادية قابلة للزوال، لذلك تبقى الركيزة الأقوى للتمسك بالقيم هي ركيزة الصبر.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (إذا صبر الإنسان أو صدق في قوله وعمله أو وفى بالوعد في الموارد التي تتزاحم مع مصالحه الشخصية فإن معظم الناس يحاولون ثنيه، ولذلك يحتاج الالتزام بالأخلاق والفضائل والرقي فيها إلى صبر وصمود وتركيز ومثابرة).
اضف تعليق