تؤكد صفحات تاريخ ما قبل الاسلام، أن مجتمع الجزيرة العربية، كان يعيش نظام الغاب قبل بزوغ الرسالة النبوية الشريفة، وكان الطابع العام والخاص لذلك المجتمع هو الظلم وسيادة القوي على الضعيف حيث يتحكم القوي بكل شيء، أما الضعفاء فهم محل الانتهاك والإذلال، وكان العنف والتعصب الأعمى حالة سائدة في ذلك المجتمع، لذلك نجد حالة الخوف تسيطر عليهم، حتى الاقوياء كانوا يعانون من اجواء الخوف، فالجميع معرضون لغضب السيف في أية لحظة، ولا عاصم للضعيف قط، فلا قانون ولا اعراف تحكم افراد وجماعات المجتمع.
وهذا بالضبط ما قاله سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، عندما ذكر في احدى كلماته التوجيهية للمسلمين: (لقد كان الناس قبل الإسلام شعارهم الخوف، ودثارهم السيف - كما ورد في نهج البلاغة - فكان القوي يأخذ الضعيف سواء في محيط العائلة أو العشيرة أو ما هو أكبر منهما كمحيط القرية والمدينة أو أكبر كمحيط الحكومة).
ولا شك أن الناس في اجواء كهذه سوف تكون في حالة دائمة من القلق المقرون بالخوف والهلع، لاسيما أن مثل هذه الاوضاع تمثل سجية الحياة بالنسبة لهم، وليست حالة طارئة، قد تحدث مؤقتا وتزول بزوال السبب، لأن الظلم لم يكن له رادع، والقوي لا احد يستطيع أن يحد من رغباته وطمعه وغرائزه المريضة، لذلك بقيت اجواء الخوف هي السائدة في مجتمع الجزيرة العربية قبل الاسلام، وتؤكد ذلك حالة الاحتراب، والغزوات المتبادلة، والاعراف الظالمة التي كانت تضمن للقوي كل شيء، وتأخذ من الضعيف كل شيء.
وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي، عندما قال في كلمته نفسها: (كان كل قوي يظلم كل ضعيف تمكّن منه، عادة، ولذلك كنّا نلاحظ كثرة القتل والنهب والسرقات قبل الإسلام). وعندما تغيب عوامل الردع الذاتي والخارجي عن ضبط السلوك البشري، فلا ضمير يردع الانسان عن الظلم ولا وعي ولا دين ولا ثقافة، ولا قوة عادلة تحد من الانتهاكات والتجاوزات بحق الضعفاء، عند ذاك تتحول حياة الانسان الى ما يشبه الجحيم، وهذا بالضبط ما كان يعاني منه مجتمع الجزيرة قبل الاسلام، حيث اختلال الموازين كافة، وغياب العدل، وانتفاء الرحمة، وليس ادل على ذلك، من ظاهرة وأد الإناث، حيث يتم دفن البنات وهنّ على قيد الحياة من لدن الآباء، بلا رحمة او شعور بالذنب.
الخط الأحمر للإسلام
بمجيء الاسلام، وإعلان الرسالة النبوية، بدأت معالم مجتمع الجزيرة تتغير بالتدريج، ولكن بصورة جذرية، فلا وجود لقانون الغاب، ولا سطوة للقوي على الضعيف، ولا فوضى في السلب والنهب والسرقات، وصارت هناك ضوابط يتحرك الانسان في اطارها، ولا يحق له ضربها، او اهمالها، والتصرف وفقا لغرائزه او رغباته مهما كانت القوة والسلطة التي يتحلى بها، ان الناس في ظل الاسلام اصبحوا مقيدين بخط أحمر بالغ الوضوح والدقة ايضا، تتحدد في ضوئه العلاقات المتبادلة والمصالح الثنائية والجماعية، فلا يمكن للناس بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم بعد مجيء الاسلام ان يتجاوز بعضهم على بعض مهما بلغت درجة تباين القوة فيما بينهم، فالمعيار الجديد ليس القوة، وإنما الرحمة، وعدم إلحاق الضرر بالآخر، نعم الانسان منح الانسان حريته الكاملة، ولكن هذه الحرية المطلقة اقترنت بشرط حازم، او (خط احمر) كما يصفه سماحة المرجع الشيرازي، وهو حرية الانسان المشروطة بعدم إلحاق الضرر بالآخرين، واية حرية او أي سلوك لا يراعي هذا الشرط فهو غير مسموح به، وسوف يكون خاضعا للمساءلة والمقاضاة، بغض النظر عن مركز الانسان الاجتماعي او الحكومي وما شابه، لاسيما أن الاسلام منح للجميع فرصا متساوية، فلم تعد هناك سلطة للقوي على الضعيف كما كانت الامور قبل انطلاق الرسالة النبوية، ولهذا صارت الحقوق مضمونة أينما وجد الاسلام.
من هنا يذكرنا سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا الصدد: (عندما جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله، منح الجميع فرصاً متساوية، فكان كل شخص يمكنه أن يقوم بما يريد ما لم يضرّ أحداً، فكان الخط الأحمر الوحيد الذي لا يجوز تجاوزه في الإسلام على الصعيد العام هو عدم الإضرار بالآخرين). ويضيف سماحته أيضا: (لقد سنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قانون - لا ضرر ولا ضرار في الإسلام-، وهذا القانون صار سبباً لانتفاء الظلم والسرقة في المجتمع).
وعندما يتم تحجيم الظلم وضمان الحقوق للجميع، وتتلاشى سطوة الاقوياء على الضعفاء، ويتم تنظيم القوة بكل أنواعها وفق ضوابط عادلة، عند ذاك سوف يكون الضامن الأقوى لحقوق الجميع هو الاسلام، وعندها تتشكل لنا معادلة واضحة المعالم، يتكون قطباها من الاسلام والحقوق، وبهذا المعنى، نستطيع القول، أينما وُجدَ الاسلام وُجدتْ الحقوق، ويحدث العكس تماما في حالة غيابه، إذ لا يمكن حفظ حقوق الضعفاء، وهذا تحديدا هو الذي تم تحقيقه لمجتمع الجزيرة، وبعد ذلك لعموم المسلمين في دولة الاسلام.
أثر الاستقامة في كسب الآخر
لم تكن وسائل الردع، هي الوحيدة التي وضعت حدا للظلم بعد مجيء الاسلام، بل كان للنموذج الإسلامي، واستقامة الرسول صلى الله عليه وآله، تأثيرا كبيرا على الآخرين، الأمر الذي ساعد في اصلاحهم، وشذّب من أخطاءهم، وقلل من تعصبهم واندفاعهم نحو القوة والبطش والتجاوز على حقوق الآخرين، ولم يكن تأثير الاستقامة محصورا بالمسلمين ولم ينعكس عليهم وحدهم، بل حتى غير المسلمين تأثروا بها، واستفادوا منها، فدخلوا الاسلام هم وابناؤهم، وكان السبب الاساس الذي حقق هذه النتائج الكبيرة، هو حالة حفظ الحقوق تحت خيمة الاسلام.
كما اكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في كلمتها نفسها عندما قال: (أثر استقامة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في القول والعمل، دخل إلى الإسلام أكثر أولئك الذين عاصروه من المشركين أو أبنائهم). ولا شك أن الانسان ليس مجبولا على المعاندة او العناد، أي أن القناعة يمكن ان تتوافر له عندما تكون وسائل الاقناع صحيحة، واسلوبها لا يشوبه الزيف او الخداع.
قد يكون الانسان متعصبا كما يرى سماحة المرجع الشيرازي، لكنه لا يمكن أن يبقى معاندا اذا فهم الامور على حقيقتها، وعندما يتأكد الانسان، فردا كان أم جماعة، بأن الاسلام والحقوق قطبان لمعادلة واحدة، ويلمس ذلك في حياته بصورة فعلية، وليست أقوالا فقط، عند ذاك، سوف يزول التعصّب وتتحقق القناعة وتنتهي حالة العناد او المعاندة، ويعود الانسان الى رشده، ولذلك أولى بالمسلمين أن يكونوا سباقين للاستفادة من استقامة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، في حياتهم بكل ما تنطوي عليه من مصالح وصراعات وتناقضات، وان نرعى حقوق الجميع مثلما نحرص على حماية حقوقنا.
لذا ينصح سماحة المرجع الشيرازي بهذا النوع من الاستفادة، والتعلّم من النموذج، عندما يقول سماحته حول هذا الجانب: (يجب علينا أن نتعلّم من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن نعلم أن أكثر الناس ليسوا معاندين، نعم قد يكونون متعصّبين، بيد أنهم ليسوا معاندين).
اضف تعليق