في هذه الأيام يحاول مجلس النواب العراقي أن يمرر قانون (حرية الرأي)، لكن الاعتراضات على بنيته الفكرية واعتباره محاولة لمصادرة رأي المواطن، أدّت الى تأجيل التصويت على هذا القانون أكثر من مرة، ومعظم الاعتراضات ركّزت على سعي القانون لتحقيق بنود معينة وجمل محددة لتكميم الأفواه، وسلب حق الحرية في الكتابة والكلام من المواطنين، في حين يرى العراقيون أن أهم مكسب حصلوا بعد 2003 هو قدرتهم على التصريح بما يؤمنون، وإمكانية المطالبة بما يرونه في صالحهم، ولهذا فإنهم ينظرون الى مناقشة هذا القانون بكثير من الخشية مخافة العودة الى الوراء، ووضع المواطن مرة أخرى تحت نير القيود والمراقبة الرسمية.
إن حق الاعتراض مكفول، وحرية الكلام لا يمكن محاصرتها، كما أن الرأي والمعتقد والدين أمور متروكة لخيارات الإنسان، كذلك كل الأمور التي تمس حياة الإنسان وخصوصا الدينية والفكرية هو وحده من يتحكم بها ويحددها، ولا ينبغي أن تُفرَض عليه فرضاً في أي حال من الأحوال، والإسلام باعتباره النموذج الذي ننهل منه أفكارنا وآراءنا يؤمن بحرية الرأي والاختيار من دون غموض.
كما نلاحظ ذلك في كلمة لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، حيث يقول في كتاب (من عبق المرجعية): (تتجسد الحريّة الفكرية في الإسلام من خلال الآية الكريمة: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
فإذا كان الإسلام وهو (فكر إلهي) يمنح الإنسان حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، فحري بمن ينتمون الى الأرض والسلطة الزائلة أن يعملوا بهذا المبدأ ويلتزموا به، خصوصاً أنهم ما فتئوا يعلنون بأنهم إسلاميون في الانتماء والتفكير والتطبيق، فالحكومة التي تقول بأنها تعتمد مبادئ الإسلام وتؤمن بها وتعمل وفقا لها، وأعضاء البرلمان الذين ينتمون الى أحزاب إسلامية بنسبة عالية، حري بهم أن يحترموا (حرية الرأي) ولا يسعوا وينشغلوا في تكميم أفواه الناس ومصادرة حرية القول والكتابة والفكر، خصوصا أن الإسلام الذي تنتمي له نسبة كبيرة من الطبقة السياسية، يرفض مصادرة الرأي ويقدس الحرية.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب بالتحديد: إن (حريّة الرأي في نظام الله وقانون الإسلام أكثر تقديساً حتى من الشهادتين، فالإسلام يريد أن يجعل الناس أحراراً).
العالم كله يحلم بالحرية
إن التاريخ المنظور والقريب والبعيد أيضا، يعرض لنا سجلاته بلا تدليس أو مراوغة، كما إننا نقف إزاء تجارب بالغة الوضوح، كلها توضح لنا وتنتهي بنا الى عدم تكميم أفواه الناس أو منع الرأي المعارض للسلطة وطريقة إدارة شؤون الدولة، بل العكس فهناك تشجيع على حرية الرأي وإبداء الاعتراض ورفض التجاوز على الحقوق، فلماذا يحاول مجلس النواب العراقي أن يحدد الرأي وأن يحاصره وأن يقيد المظاهرات السلمية بسلسلة من الإجراءات البيروقراطية التي تعمل بالنتيجة على منع الناس من إعلان مواقفهم وآرائهم في العمل الحكومي، أو عمل السلطات الأخرى التي ينبغي أن تكون مستقلة، كسلطة القضاء والتشريع.
والحقيقة أن هذا النوع من الإجراءات يعد مصادرة للرأي، وتكميم للأفواه، ومنع الصوت المعارض من إبداء رأيه، وبالنتيجة هي محاولة للعودة بالعراقيين الى الوراء أو ما يسمى بالمربع الأول، أي بالعودة الى النظام الفردي المركزي، وهذا يعني القمع والقتل والملاحقة والتشريد والإقصاء، في حين أن أول وأعظم حكومة قادها الرسول الكريم (ص) لم تجبر أحدا على اعتناق فكر أو معتقد أو دين محدد ولم تُقدم على إجبار أحد أو قتله.
نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي إذ يؤكد قائلا: (لم يقتل النبي صلى الله عليه وآله أحداً من المشركين بسبب عدم إسلامه، ولا أجبر أحداً على الإسلام، بل تركهم على دينهم، مع أن دينهم باطل وخرافي، لكيلا يسلبهم حريّة الفكر والدين).
وعندما نتفحص أحزاب الطبقة السياسية وكتلها وشخصياتها السياسية التي تقود اليوم بلد العراق، فإننا سوف نجد أن معظمهم ينحدر من جذور الإسلام، وهذا يستوجب إيمانهم بحرية الرأي وضمان حقوق الناس في الفكر والدين والمعتقد والرأي السياسي أو سواه، إذ لا يجوز إجبار الناس على فكر أو رأي أو حتى دين محدد، خصوصا أن الإسلام قدم في مضامينه وأفكاره الواردة في المضامين القرآنية وسيرة الرسول الأكرم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، سلسلة من الإجراءات القائمة على حماية حرية الرأي وجعل الفرد حرّا في خياراته الفكرية والدينية والسياسية، فلماذا يسعى بعض القادة والساسة العاملين في الساحة السياسية الى إعادة العراقيين الى عصور القمع ومصادرة الرأي؟؟.
إن هذا السلوك السياسي المؤسف يتناقض تماما مع القواعد والثوابت التي يقوم عليها الفكر السياسي الإسلامي الذي يسعى بكل قوة لحماية حقوق الجميع بصورة متساوية ومن دون تفريق بين هذا وذاك بسبب الانتماء العرقي أو المناطقي أو الديني وسوى ذلك.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي بوضوح تام: (في الإسلام أفضل أقسام الحريّة، بما لم يحلم بها العالم في ظل أرقى الحضارات الأرضية).
لا ينبغي المساس بحرية الرأي
من هنا فإن كل إنسان ينبغي أن يكون حرا، وأن كل عراقي بعد التضحيات الكبيرة التي قدمها يجب أن يحصل على ما يستحقه من احترام وحماية تامة لحق الإدلاء بالرأي ومناقشة الأداء الحكومي من دون اعتراض أو ملاحقة، إذا ينبغي أن تكون عهود الملاحقة والمصادرة قد ولّتْ الى الأبد، ولا يصح أن يكون هناك أي تراجع في هذا المجال.
لهذا السبب يرى العراقيون أن مجرد مناقشة قانون بعنوان (حرية التعبير) في مجلس النواب يمثل محاولة لضرب ما تحقق من حريات للمواطن العراقي، ولعل الخشية والخوف الذي تعلنه النخب المختلفة والمنظمات والشخصيات المتنورة وحتى الرأي العام، من محاولة الطبقة السياسية لتمرير قانون (حرية التعبير) يتأتى من خطر العودة الى الدكتاتورية، وعدم القدرة على الاعتراض والتصريح وكتابة الرأي الحر، وهذه المواصفات كلها كانت موجودة في دولة المسلمين، وينبغي أن تكون موجودة في كل حكومة ودولة تدّعي الانتماء الى الإسلام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب في الكتاب المذكور نفسه: (في دولة الإسلام كل إنسان حرّ في قلمه وبيانه، وكلامه وكتابه، وتكوينه الجمعيّات والهيئات، والتكتّلات والأحزاب، وجمعه المساعدات والتبرّعات، وإصدار المجلاّت والجرائد، وتأسيسه دار الإذاعة والتلفزيون، وغير ذلك).
وأخيرا يدعو سماحة المرجع الشيرازي جميع المسلمين، قادة ومواطنين، سياسيين وأفراد محكومين، يوجّه سماحته خطابه بوضوح للجميع، بأن عليهم التعامل مع (الحرية) كأنها هبة إلهية عظمى ينبغي اغتنامها والتعاطي معها على أحسن وجه، ذلك أن الإخلال والتنكر لهذه النعمة والمساس بقيمتها الكبرى سوف يلحق أفدح الأضرار بالجميع بما في ذلك الطبقة الحاكمة، ولن يكون المواطن البسيط وحده الذي يدفع الثمن، وإنما الطبقة الحاكمة ستدفع الكثير إذا حاولت العودة بالعراقيين الى عهود الرقابة والملاحقة والتكميم.
في الخلاصة العراقيون جميعا مطالبون بحماية ما حققوه في مجال الحريات، النخب والمسؤولين والمواطنين من كل الشرائح والفئات، عليهم جميعا حماية ما تحقق في مجال الحريات، وعدم الخضوع للابتزاز أو أساليب الخداع والضغط، فالخسارة التي تلحق بالشعب والدولة العراقية ستكون كبيرة في حال إصدار ضوابط قاهرة للرأي والفكر والحرية.
أخيرا يقول سماحة المرجع الشيرازي: (الحريّة نعمة إلهيّة عظمى ينبغي اغتنامها على أحسن وجه).
اضف تعليق