{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
قد لا يحقّق الارهابيّون بجرائمهِم أَهدافهم الماديّة، كالاحتفاظ بالأرض التي يغتصبونها ويسيطرون عليها مدّة من الزّمن، الا انّهم ربما ينجحون في تحقيق أهدافهم (المعنويّة) في المجتمع وذلك أَخطر بكثير من النّوع الاول من اهدافهِم! فماذا ينفع اذا تحرّرت الارض من قبضتهِم ولم تتحرّر العقول من افكارهِم وعقائدهِم ومناهجهِم التكفيريّة والتدميريَّة؟!.
ماذا ينفعنا اذا حرّرنا الارض على حسابِ أَخلاقنا ومبادئنا وقيمنا وثوابتنا؟!.
يجب ان يظلّ المنهجَين مُتمايزَين ومتوازيَين لا يلتقيان ابداً، مهما قست علينا الظّروف والتحدّيات، منهجُنا ومنهجُهم.
إِنّهم يستهدفون قِيمَنا قبل أَرضنا، ومبادئنا قبل عِرضنا، وعقيدتنا قبلَ بلدنا، ولهذا السّبب يجب ان ننتبهَ الى نقطةٍ مهمّةٍ جداً على هذا الصّعيد، وهي؛ ان الارهابيّين يهدفون بجرائمهم البشعة الى اثارةِ الفوضى والفتنة في المجتمع، لتضيع القِيَم والمبادئ، ولذلك فانّ من أعظم مسؤوليّاتنا هي ان لا نمكّنهم من تحقيق هذا الهدف، والا فالنّتيجة هي الى التَّقاتل والتمزّق والتفتُّت، وجرِّنا لأساليبهِم ووسائلهِم ليتساوى عندهم المنهجَين.
ولقد نبّه الامام علي (ع) الى هذا الخطر في وصيّتهِ لولدَيهِ السّبطَين عليهما السلام وهو على فراش الشهادة بعد ضربة المجرم ابْنَ مُلجَم، كما نبّهَ كذلك الى عدم الانجرار وراء جريمة الارهابي بالخروج عن الجادّة الصّحيحة وارتكاب جرائم مُماثلة.
انّهُ عليه السلام حذّر من الاندفاع بروح الانتقام والتشفّي والحقد والضّغينة، وتجاوز القِيَم والاخلاق للردّ على جرائم ذوي العقيدة التكفيريّة الفاسدة!.
يَقُولُ عليه السّلام {يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ.
أَلاَ لاَ تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي.
انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَة، وَلاَ يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بَالْكَلْبِ الْعَقُورِ"}.
اذن؛ خليفةٌ يُقْتَل فتُثارُ ثلاثُ حروبٍ أهلكت الحرثَ والنّسل! للطّلب بدمهِ! وآخرَ يُقتلُ فيحذّر من مغبّة الفتنة!.
هو الفرقُ بين منهجَين لن يلتقيا، منهج الفتنة ومنهج التحذير منها ومواجهتها بشتّى الطّرق والاساليب!.
ولقد حذّر القرآن الكريم من مغبّة إنجرار (المؤمن) الى ارتكاب الخطأ بذريعة جرائمهِم، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ولذلك لا ينبغي ابداً ان نغفل أَو نتغافل عن قيمِنا ومنهجِنا فنرتكب او نعمد الى افعالٍ هي أَقرب ما تكون الى منهج الارهابيّين وابعد ما تكون عن منهج أَميرُ المؤمنين عليه السلام.
انّ الارهاب (الدّيني) اليوم بلاءٌ يمتحن الله تعالى فيه صدقنا وقوّة ايماننا وثقتنا بالمنهج ومدى استقامتَنا عليه، فلنحذر ان ننساقَ وراء الخطأ بذريعةِ جرائم الارهابيّين، فذلك هو السّقوط المدوّي في الامتحانِ الالهي.
لقد أرادَ عمرو بن ودّ العامري ان يُثير غضب أميرَ المؤمنين (ع) عندما بصقَ في وجههِ الشّريف لحظة ان أراد ان يحز الامام رأْسهُ في معركةِ الخندق، الا انّ الامام لم يمنحهُ الفرصة فيتمكّن من إخلاصهِ ودينهِ وثقتهِ، فتركهُ وشانهُ هنيئةً ثمّ عاد ليُجهز عليهِ بعد ان هدأ الغضب عَنْهُ ليكون فعلهُ وعملهُ وجهادهُ خالصاً لله تعالى بلا ذرّة (انا) لو كان قد قتلهُ انتقاماً لأَنَفَتِهِ وتطييباً لغضبهِ!.
هذا في ساحة المعركة، امّا في السّلطة والحكُم فلم يكن الامام ليمنح أحداً الفرصة ابداً لجرِّهِ الى أهدافهِ او الى أساليبهِ ووسائلهِ، لانه (ع) كان شديد الوثوق بنفسهِ وبدينهِ وبنهجهِ على حدٍّ سواء، ولقد كان بامكانهِ ان يُسايرهم ليحتفظ بالسّلطة لنفسهِ مدّةً أطول، فهو كان على معرفةٍ تامَّةٍ بطرق السّياسة الملتوية، الا ان ثباتهُ وصبرهُ على المنهج كان يحول بينهُ وبين ذلك، فلطالما كان يَقُولُ لهم {وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ، وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ، وَلكِنِّي واللهِ لاَ أَرى إِصْلاَحَكُمْ بَإِفْسَادِ نَفْسِي} وهو القائل عليه السّلام {وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَاللهِ مَا أَسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ}.
كذلك على صعيد الطَّبقيَّة الاجتماعيّة والتمييز الاقتصادي، فلقد كان بامكانِ الامام ان يكونَ كذلك، بل حتّى اكثر من الخليفة الثّالث وبطانتهِ، ولكن هيهات، حيث قال {وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الاَْطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة * وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ، كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدىً، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!}.
ان واحدةً من أَعظم اسرار الامام علي (ع) هو انّهُ لم يتأَثّر بالمتغيّرات ولم ينجح احدٌ في ان يفرض عليهِ ان يغيّر من نهجهِ او ينجرّ الى نهجِ الآخرين على الرّغم من عِظَم التحدّيات وخطورة المنعطفات التي مرّ بها ومرّت عليهِ.
عليُّ (ع) واحد، ونهجهُ ثابت، خارج السّلطة وفي السّلطة، ولذلك فحرامٌ على من يتقلّب في المنهج ويتلوّن عند التّحدّيات وتغيرهُ الظّروف من حالٍ الى حالٍ وينساق وراء التحدّيات ان يدّعي انتماءهُ لعليٍّ عليه السّلام، فالإمام الذي تمثّلت فيه الاستقامة والثّبات على المنهج لا ينتمي اليه المنقلِبون الذين تُغيّر نهجهُم صفراءٌ او حمراءٌ!.
اضف تعليق