رمضان ليس مجرد شهر للامتناع عن الطعام، بل هو دعوة لإعادة التفكير في عاداتنا، فكما نطهر أجسادنا بالصوم، يمكننا أن نطهر بيئتنا بتغيير سلوكياتنا، لنحول موائد الإفطار إلى فرصة لترشيد الاستهلاك، ولنجعل من الزينة الرمضانية رمزاً للاستدامة، ولنستخدم روحانية الشهر لبناء وعي جماعي يحمي أنهار العراق وترابه...
تُضاء شوارع العراق خلال رمضان بزينة لامعة، وتنتشر موائد الإفطار الجماعي حيث تتعانق الأصوات بالدعاء وروائح المطبخ العراقي الأصيل. لكن وراء هذه الأجواء الروحانية، تُخفي العادات الرمضانية تحديات بيئية قد لا ننتبه لها. فكيف يؤثر شهر الصوم على بيئة العراق؟ وما الخطوات التي يمكن أن نجعل منها فرصة لتعزيز الوعي البيئي؟
الاستهلاك المفرط
يشهد العراق خلال رمضان زيادة ملحوظة في استهلاك الكهرباء، حيث تُضاء الشوارع والمساجد لساعات طويلة، كما يزداد استخدام الأجهزة المنزلية مثل الثلاجات والمكيفات بسبب ارتفاع درجات الحرارة. وفقاً لبيانات غير رسمية، يرتفع الاستهلاك بنسبة 20% خلال الشهر، مما يفاقم الضغط على شبكة الكهرباء الهشة أصلاً، ويُزيد من انبعاثات الكربون الناتجة عن المولدات الخاصة.
ولا يقف الأمر عند الكهرباء؛ فاستهلاك المياه يرتفع بشكل لافت، خاصة مع عادة غسل الأواني بكثرة وتحضير الأطباق التقليدية مثل الدولمة والكباب. في بلد يعاني من شحّ المياه وتدهور أنهاره بسبب السدود والتغير المناخي، يصبح كل قطرة ماء مهدرة عبئاً إضافياً.
طعام وبلاستيك يهددان البيئة
تتحول ملايين الأطباق البلاستيكية إلى "ضحايا خفية" لموائد الإفطار الجماعي، حيث يُستخدم البلاستيك لمرة واحدة ثم يُلقى في مكبات النفايات أو المسطحات المائية، مسبباً تلوثاً يستغرق قروناً للتحلل. ولا يقل خطراً عن ذلك هدر الطعام؛ إذ تُقدّر منظمات محلية أن 40% من الأطعمة المُعدة في رمضان تُرمى، رغم وجود آلاف العائلات التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي.
مبادرات تجمع بين الإيمان والاستدامة
لكن الأمل لا يغيب. فشهر رمضان، بجوهره الروحاني، يُذكّرنا بأن الحفاظ على البيئة جزء من المسؤولية الدينية والاجتماعية. وفي العراق، بدأت مبادرات فردية وجماعية تُظهر أن التغيير ممكن:
1. إضاءة مستدامة: تشجع حملات مثل "رمضان أخضر" في بغداد على استخدام الزينة الشمسية أو المصابيح الموفرة للطاقة، مع إطفاء الأضواء الزائدة بعد منتصف الليل.
2. مكافحة البلاستيك: أطلقت جمعيات بيئية حملات توزيع أطباق قابلة لإعادة الاستخدام على المساجد والمطاعم، مع تشجيع الأسر على استخدام الزجاجيات.
3. الحد من هدر الطعام: تعاون بعض المطاعم مع منصات إلكترونية مثل "إطعام" لتوزيع فائض الطعام على العائلات المحتاجة، مستفيدة من تقنيات التطبيقات الذكية.
4. توعية عبر المنابر: بدأ أئمة المساجد بإدراج رسائل بيئية في خطب الجمعة، مستشهدين بآيات قرآنية مثل: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾، لتذكير المصلين بأن الإسراف يناقض روح الصيام.
رمضان... شهرٌ للتجديد البيئي أيضاً
رمضان ليس مجرد شهر للامتناع عن الطعام، بل هو دعوة لإعادة التفكير في عاداتنا. فكما نطهر أجسادنا بالصوم، يمكننا أن نطهر بيئتنا بتغيير سلوكياتنا. لنحول موائد الإفطار إلى فرصة لترشيد الاستهلاك، ولنجعل من الزينة الرمضانية رمزاً للاستدامة، ولنستخدم روحانية الشهر لبناء وعي جماعي يحمي أنهار العراق وترابه.
الكرة الآن في ملعبنا: كل فعل صغير – من إطفاء مصباح زائد إلى تقليل استخدام البلاستيك – هو صدقة بيئية تُضاعف أجرها في هذا الشهر المبارك. فلتكن أيام رمضان في العراق أنموذجاً يُثبت أن الإيمان والاستدامة وجهان لعملة واحدة.
اضف تعليق