ملفات - شهر رمضان

المصلحون وضياع الحقيقة

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة (6-7)

هل ينبغي على المظلُومِ المتَّهم ظُلماً وعُدواناً أَن يتجاهلَ حقَّهُ في ردِّ الشُّبهةِ وإِسقاطِها أَبداً دائماً وفَوراً؟! أَم ماذا إِنَّ تعرُّض الإِنسان للتُّهمِ الباطِلةِ على نَوعَينِ؛ تارةً تسقطُ بتاريخهِ النَّظيفِ والنَّزيهِ فهوَ ليسَ بحاجةٍ إِلى أَن يُدافعَ عن نفسهِ وإِنَّما ينبري لذلكَ تاريخهُ وماضيه وسلوكهُ الحاضِر ولذلكَ ترى...

 (وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِۦ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسْـَٔلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱلَّٰتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ).

 إِنَّ من أَقسى الظُّلمِ على المرءِ وأَكثرهُ إِيلاماً عندما يتعرَّض للتُّهمِ الظَّالِمة وليسَ بيدهِ أَن يرُدَّ عليها أَو يفنِّدها في وقتِها لأَيِّ سببٍ من الأَسبابِ فيضطرَّ للتَّغاضي عنها إِلى حينٍ قد يحينُ وقتهُ وقد لا يحينُ فيذهبُ بها إِلى قبرهِ!.

 وفي قصَّةِ نبيَّ الله يوسُف (ع) صورةٌ واضحةٌ لهذهِ الحالةِ التي يمرُّ بها المُصلحُونَ في مُجتمعاتهِم.

 والتُّهمُ التي تعرَّضَ لها (ع) كانت أَكثرُ إِيلاماً حتَّى من التُّهم الخطيرةِ والظَّالمةِ التي تعرَّضت لها العذراءُ البتُول مَريم بنتَ عِمران (ع) لأَنَّ النبيَّ (ع) لم يكُن يمتلِك أَيَّ أَداةٍ لشرحِ التُّهم والردِّ عليها وتفنيدِها أَمَّا العَذراء فلقد منحَها الله تعالى الوَسيلة الغَيبيَّة للردِّ الفَوري على التُّهمةِ التي تعرَّضت لها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا* يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا).

 أَمَّا يوسُف (ع) فما كانَ منهُ إِلِّا أَن (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ).

 فلم يشأ أَن يُدافع عن نفسهِ لأَنَّهُ لم يكُن يمتلك الأَدَوات والبراهين والإِثباتات الكافِية لذلكَ، ولهذا السَّبب كانَ يدفع ثمَن كُلَّ تُهمةٍ غالياً وكانَ آخرَها قبلَ أَن يتبوَّأ منصباً في الدَّولةِ الجديدةِ تُهمة التحرُّش الجنسي بزوجةِ العزيزِ في قصرِها وهوَ عبدٌ مملوكٌ يعملُ في خدمتِها.

 وعندما تدخَّلَ الغيبُ للدِّفاعِ عنهُ (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ومعَ هذا الدَّليلُ المنطقيُّ القاطِعُ لم ينفعهُ في شيءٍ لأَنَّها سيِّدةُ القصرِ وهوَ عبدٌ مملوكٌ فكانَ أَن تحمَّلَ عناء السِّجن مدَّة [٧] سنواتٍ للتستُّرِ على فضيحةِ القصرِ!.

 كذلكَ فإِنَّ ما آلمَ يوسُف (ع) أَنَّهُ تعرَّض للتُّهمِ من قبَلِ أَقربِ النَّاسِ إِليهِ [أُخوتهُ] وكذلكَ من قِبلِ أَبعدِ النَّاسِ إِليهِ (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ).

 السُّؤَال الذي يطرحُ نفسهُ هُنا هوَ؛ هل ينبغي على المظلُومِ المتَّهم ظُلماً وعُدواناً أَن يتجاهلَ حقَّهُ في ردِّ الشُّبهةِ وإِسقاطِها أَبداً دائماً وفَوراً؟! أَم ماذا؟!.

 إِنَّ تعرُّض الإِنسان للتُّهمِ الباطِلةِ على نَوعَينِ؛

- تارةً تسقطُ بتاريخهِ النَّظيفِ والنَّزيهِ فهوَ ليسَ بحاجةٍ إِلى أَن يُدافعَ عن نفسهِ وإِنَّما ينبري لذلكَ تاريخهُ وماضيه وسلوكهُ الحاضِر (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) ولذلكَ ترى أَنَّ النَّاسَ ينبرُونَ للدِّفاعِ عنهُ وردِّ الشُّبهاتِ والتُّهمِ التي يتعرَّض لها، وهيَ مسؤُوليَّةٌ شرعيَّةٌ وأَخلاقيَّةٌ يلزَم أَن يتحمَّلها المُجتمع بإِزاء مَن يضحِّي من أَجلهِم ويعمَل على توعيتهِم ورفعِ الظُّلمِ عنهُم والذي يتعرَّضُونَ لهُ على يدِ الحاكمِ الظاَّلمِ وجلاوِزتهِ، فلا ينبغي للمُجتمعِ أَن يتخلَّى عن المُصلحِينَ عندَ أَوَّلِ تُهمةٍ يتعرَّض لها أَو ينشرَها الذُّباب الأَليكتروني، فهذهِ الحالةُ نُقصانُ حظٍّ!.

- تارةً لم يجِدُ المرءُ بُدّاً من الصَّبرِ على ما يتعرَّض لهُ من تُهمٍ وافراءاتٍ باطلةٍ، والصَّبرُ هُنا نَوعٌ من أَنواع التَّجاهل وهوَ مطلوبٌ بالضَّرورة إِذا كانَ الإِنشغالُ بالردِّ عليها عبثٌ لا طائِلَ من ورائهِ ولذلكَ قالَ الشَّاعرُ؛

 لَو كُلُّ كَلبٍ عَوى ألقَمْتَهُ حَجَراً --- لأَصبحَ الصَّخْرُ مِثْقَالاً بدينارِ

 كذلكَ فإِنَّ الظُّلم الذي يتعرَّض لهُ صاحب الرِّسالة على نَوعَينِ؛ الأَوَّل هوَ الظُّلم الشَّخصي والثَّاني هوَ الظُّلم العام، ظُلم المُجتمع.

 أَمَّا الأَوَّل فيمكِنهُ أَن يصبرَ عليهِ ويتجاوزهُ إِلى حينٍ، من دونِ أَن يعني ذلكَ تنازلهُ عنهُ للأَبد، خاصَّةً إِذا كانت التُّهمةُ خطيرةً، وإِنَّما ينتظرُ الفُرصةَ السَّانِحةَ ويترقَّب الوَقت المُناسب، كما فعلَ نبيَّ الله يوسُف (ع) فهوَ طالبَ بحقِّهِ الشَّخصي [تبرِئتهُ من تُهمةِ التحرُّشِ الجنسي] في وقتٍ كانَ الملكُ بأَشدِّ الحاجةِ إِليهِ ليُفسِّرَ رُؤياهُ ولذلكَ لم يكُن بوسعهِ تجاهُلَ طلبِ يوسُف (ع) مهما كانَ الثَّمنُ [فضيحةُ القصرِ على رؤُوسِ الأَشهادِ] ولذلكَ بادرَ الملِكُ فوراً لتشكيلِ لجنةٍ خاصَّةٍ للتَّحقيقِ في التُّهمةِ وإِعلانِ النَّتائج بلا تأخيرٍ (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ* قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).

 وإِنَّما أَصرَّ يوسُف (ع) على كشفِ الحقائِقِ وتبرِئةِ نفسهِ وردِّ الإِعتبارِ لهُ لأَنَّهُ كانَ في طريقهِ لأَن يتبوَّأَ موقِعاً رسميّاً مُهمّاً ما كانَ ينبغي أَن يتصدَّى لهُ وهوَ مُتَّهمٌ في جِنحَةٍ أَخلاقيَّةٍ خطيرةٍ، خاصَّةً وفي الدَّولةِ مُتربِّصُونَ سيُوظِّفُونَ ضدَّهُ الزَّلَّاتَ عندما تتضرَّر مصالِحهُم بسياساتهِ ونهجهِ الجديدِ، وفيهِم سياسيُّون وقادة كِبار و [عُلماء وفُقهاء ورِجالُ دينٍ] فهؤُلاء لا يرحمُونَ أَحداً يقِفُ في طريقِ مصالحهِم وإِمبراطوريَّاتهِم الخاصَّة ولذلكَ هوَ عرضَ نفسهُ على [النَّزاهةِ] لثقتهِ بنفسهِ ويقينهِ بطهارتهِ وبراءتِهِ ثُمَّ طلبَ من أَعلى مسؤُولٍ في السُّلطةِ أَن يَقفَ على الحقيقةِ قبلَ أَن يخطُو الخُطوةَ التَّالية، حتَّى لا يمنحَ أَحدٌ من الفاسدِينَ فُرصةً لتوظيفِ شيءٍ ضدَّهُ فيُشوِّشُوا على الرَّأي العام ويُعرقِلوا مشرُوعهُ الإِصلاحي، فالمُتَّهَمُ يفشَل في الإِصلاحِ والتَّغييرِ خاصَّةً في مُجتمعٍ تنتشِرُ فيهِ الظَّاهرة التي يُحدِّثنا عنها القُرآن الكريم بقَولهِ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ).

 لقد كانت فُرصةً ثمينةً قد لا تتكرَّر فإِذا ضاعَت ضاعَت معها الحقِيقة.

 ((يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ)

 قد يسأَلُ سائِلٌ؛ لماذا لم يشترِط نبيَّ الله يُوسُف (ع) إِعادة الإِعتبار لنفسهِ يومَ أَن بعثَ الملكُ الخادِمَ ليسأَلهُ وهو في السِّجن؟! فلقد رأَينا نبيَّ الله (ع) بادرَ فَوراً لعرضِ خارِطةِ الطَّريق لرسُولِ الملكِ من دُونِ أَن ينتظِرَ ثمناً [تبرِئتهِ].

 (يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَٰتٍۢ سِمَانٍۢ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنۢبُلَٰتٍ خُضْرٍۢ وَأُخَرَ يَابِسَٰتٍۢ لَّعَلِّىٓ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).

 أَلم يكُن هذا وقتٌ أَنسب لانتزاعِ الحقيقةِ من السُّلطةِ؟؟ إِذ كانت بأَمسِّ الحاجةِ لتفسيرهِ رؤُيا الملكِ خاصَّةً بعد الفشَل الذَّريع الذي مُنِيَ بهِ [فُقهاء ومُفسِّرُوا أَحلام البِلاط]؟!.

 الجُوابُ؛ لو كانَ يوسُف (ع) قد فعلَ ذلكَ في هذا الوقتِ بالذَّات لم يكُن من المُحسنينَ أَبداً ولم يكُن صدِّيقاً، لأَنَّهُ كانَ يبدو وكأَنَّهُ ينتقِمُ لنفسهِ مُستغِلّاً ظرفاً خطيراً توشِكُ الدَّولة والنَّاس أَن يمرُّوا بهِ بسببِ القحطِ الذي يضرِب البلاد، ولذلكَ فهوَ (ع) شرحَ تفسيرهُ للرُّؤيا بكُلِّ صدقٍ وإِخلاصٍ وحرصٍ وإِنسانيَّةٍ ليُساعدَ في إِنقاذِ النَّاسِ من البلاءِ الوشيكِ، وبذلكَ أَثبتَ مصداقيَّتهُ أَمام البِلاط الذي كانَ ينتظِرُ تفسيراً حصيفاً عقلانيّاً وعمليّاً على أَحرِّ من الجَمرِ، كما أَثبتَ للجميعِ بأَنَّ غرضهِ من طلبِ كشفِ الحقيقةِ فيما بعدُ ليسَ للإِنتقامِ والإِبتزازِ وإِنَّما لخدمةِ الحقيقةِ فحَسب، وإِلَّا لكانَ ساومهُم وهو في السِّجنِ في وقتِ شدَّتهِم!.

 ليسَ من طبيعةِ المُحسنينَ اللُّجُوءَ لطُرُقِ الإِبتزازِ عندما يُريدونَ الدِّفاعَ عن أَنفُسهِم ضدَّ التُّهَمِ! وليسَ من أَخلاقيَّاتِهِم توظيفَ مُعاناةِ النَّاسِ أَو إِستغلالِ الأَزَماتِ للضَّغطِ لتبرِئةِ أَنفسهِم أَو انتزاعِ حقُوقهِم، أَبداً.

 فهذا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) يُقدِّمُ أَفضل إِستشاراتهِ للخُلفاءِ في ساعاتِ المِحنةِ والبلاءِ ولَو كانَ غيرهُ لدفعهُم إِلى الهلاكِ إِنتقاماً لحقٍّ اغتصبُوهُ وتُراثٍ نهبُوهُ.

 فقد شاورَهُ الخليفة الثَّاني في الخروجِ إِلى غزوِ الرُّومِ فكانَ جوابهُ كما يشرحهُ (ع) (وقَدْ تَوَكَّلَ اللَّه لأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وسَتْرِ الْعَوْرَةِ، والَّذِي نَصَرَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ ومَنَعَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ.

 إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لَا تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ، لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْه فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً واحْفِزْ مَعَه أَهْلَ الْبَلَاءِ والنَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّه فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ ومَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ).

 كذلكَ عندما استنصحَهُ الخليفة الثَّالِث في أَحداثِ الفتنةِ، قدَّمَ لهُ أَفضلَ الرَّأي وأَحسنَ الحِكمةَ في المَوقفِ لَولا أَنَّهُ كانَ تحتَ تأثيرِ البِطانةِ الفاسِدةِ.

 يقُولُ أَمِيرُ المُؤمنينَ (ع) مُخاطِباً عُثمان في جُملةِ كلامٍ لهُ (فَاللَّه اللَّه فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ واللَّه مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى ولَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وإِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّه عِنْدَ اللَّه إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وهَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّه إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وضُلَّ بِه فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ ولَيْسَ مَعَه نَصِيرٌ ولَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا» وإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّه أَلَّا تَكُونَ إِمَامَ هَذِه الأُمَّةِ الْمَقْتُولَ

فَإِنَّه كَانَ يُقَالُ؛ يُقْتَلُ فِي هَذِه الأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ والْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ويَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا ويَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً ويَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ وتَقَضِّي الْعُمُرِ.

 فَقَالَ لَه عُثْمَانُ [كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ] فَقَالَ (ع) مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا أَجَلَ فِيه ومَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْه).

 أَمَّا النَّوعُ الثَّاني فهو الظُّلم العام الذي يتعرَّض لهُ صاحبُ الرِّسالة، وهذا النَّوعُ من الظُّلمِ كذلكَ يرى نفسهُ أَن يصبِرَ لتحقيقِ المصلحةِ العُليا للأُمَّةِ قد يكونُ عجزاً بسببِ خُذلانِ الأَغلبيَّة ولكن ليسَ خَوفاً أَو جُبناً شخصيّاً أَبداً.

 يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (أَمَا واللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه.

 فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً).

 أَمَّا الظُّلمُ الخاص فأَغلب الظَّن فإِنَّ صاحِب الرِّسالة يصبرُ عليهِ لأَنَّ صِدقهُ معَ الله ومعَ نفسهِ يدفعهُ دائِماً لتقديمِ المصالحِ العُليا على المصالحِ الخاصَّةِ.

 يشرحُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) ذلكَ بقَولهِ (لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي ووَ اللَّه لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وزِبْرِجِهِ).

 خاصَّةً إِذا كانَ في الأُمَّةِ مَن يسعى لتحشيدِ العامَّةِ ضدَّهُ لتخريبِ مشرُوعِ [الدَّولة] ولتحقيقِ أَغراضٍ مُدمِّرةٍ تضرُّ بالرِّسالةِ والأُمَّةِ معاً، وعندما لا يجدُ الوقتَ المُناسب لذلكَ.

 يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ؟! أَحِينَ أَعْجِزُ عَنِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ، أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْه فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَ).

 وذلكَ هوَ أَعظمُ البلاءِ الذي يحتاجُ إِلى أَعظمِ الصَّبرِ.

 لم يتعرَّض لهُ إِلَّا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) ولم يصبِر عليهِ إِلَّا أَمِيرُ المُؤمِنينَ (ع).

اضف تعليق