ويأتي هذا الشهر الكريم ليضاعف قدرة الانسان على العطاء والمبادرة في البذل، وهو امر في غاية الأهمية، فشهر رمضان بما يحويه من صفات روحية ومعنوية ومادية قادرة على تهيئة الانسان ليكون فعالاً في عطاءه، ويمتد تأثيره الى الاخرين، وبهذا يتحقق الخير والسلم والامن والرفاهية للمجتمع من خلال التحلي...
الانسان بطبيعته كائن اجتماعي لا يعيش وحيداً، بل يسعى بالفطرة الى مشاركة الاخرين من بني البشر في كل شيء، تقريباً، في مشاعره واحتياجاته ورغباته، افراحه وحزانه، مأكله وملبسه وسكنه وغيرها، يقول تعالى: (يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَانْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا انَّ اكْرَمَكُمْ عَنْدَ اللَّهِ اتْقاكُمْ)، وقد نشأت في ضوء تلك الصلات الاجتماعية والروابط الأخلاقية والتبادل المنفعي للمصالح والاحتياجات، علاقات اجتماعية جمعية جعلت من الصعب تفكيكها او التخلي عنها او الانسلاخ منها.
ان قيمة الانسان بما يحمله من إنسانية، بمعنى اخر، ما هو مقدار ما يملكه من صفات واخلاق انسانية تميزه كانسان عن باقي المخلوقات التي تتحكم بها الغرائز دون العقل والعاطفة التي تميل الى فعل الخير والبر والتقوى ومساعدة الاخرين، وبالتالي يمكن القول ان الانسان بالفطرة ميال الى فعل الخيرات، وتقديم المساعدة لمن يحتاجها، وهذا هو المعنى الحقيقي لان تكون انساناً، تتنعم بالإنسانية وتخدم بها الاخرين.
ان قيمتك ووزنك ومدى اهميتك لا يكمن في مقدار ما تملكه او من تكون، فكله سيزول بلا ذكر او أثر او اسف، بل كيف يمكن ان تحافظ على فطرتك وانسانيتك وتنطلق منها في فعل الخيرات، وقد أشار اليها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في قوله ان: "ما يحصله الإنسان من متاع الحياة الدنيا كالسيارة أو المال الكثير سينفد بعد فترة زمنية أو يتلف ولا يبقى منه شيء، أما إذا جاءك شخص بحاجة ولبيتها له أو أعطيته سؤله فهذا لا يعدم أبداً فقد قال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
"والمراد بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة، فإن أعمال الإنسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات وهي عند الله خير ثواباً لأن الله سبحانه يجازي فاعلها خير الجزاء، وخير أملاً لأن ما يؤمل بها من رحمة الله وكرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملاً من زينة الدنيا وزخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعد".
والحقيقة التي ينبغي ان نعرفها جيداً ونركز عليها ان الإسلام الحنيف أكد بشكل قاطع على مكارم هذه الاخلاق، وحث على روابطها الاجتماعية، واعتبرها قرينة للتقوى والايمان وقبول الاعمال، لان تطور الانسان نحو الكمال لا يتحقق من دون تحلي الفرد بإنسانيته وتخليه عن كل ما يشوه هذه القيمة التي أرادها الله (عز وجل) للإنسان لتميزه عن سائر ما خلق.
ان هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان الكريم، يعتبر فرصة مثالية لمعرفة الانسان لقيمته واخلاقه وفطرته وفضائله التي جمعت تحت مسمى "الانسان"، وان لا يقصر في فعل الخير واوجه البر، وان يسعى الى ذلك دون انتظار طلب الاخرين: "ان وظيفة المسلم أن يتفقد حاجات الناس ويسعى في سبيل قضائها ولا ينتظر أن يستغيثه أحد لقضاء حاجته وانما يلتزم هو بالمبادرة في قضاء الحوائج، وفي القرآن الكريم: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ).
يقول الإمام الحسين (عليه السلام): "اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم فلا تملوا النعم فتحور نقماً واعلموا أن المعروف مكسب حمداً ومعقب أجراً"، ان قضاء حوائج المؤمنين بل الناس جميعاً من النعم الإلهية الكبيرة التي يوفق لها بعض الناس خصوصاً في هذا العصر حيث ازدادت حوائج الناس واتسعت مشاكلهم وأزماتهم التي تستدعي التعاون والاهتمام من أجل رفعها وقضائها من قبل الجميع، فمن الضروري على المؤمن أن يغتنم الفرصة ليخدم الناس ويساعدهم ويقضي حوائجهم، ولا يخفى أن قضاء حوائج الناس لا يعني فقط حوائجهم المادية بل أعم من ذلك فيشمل حتى الجوانب الروحية والأخلاقية والخدمات الأخرى".
ان الانطلاق من هذا الشهر الكريم نحو المبادرة الى فعل الخير يحقق الكثير من الكمالات والفوائد الإنسانية، وهو امر يعود بالفائدة على المبادر والمحتاج، شرط ان لا يتدخل فيها الذم او المدح فكلاهما مدمران للنفس والعمل: "إذن على الإنسان أن يشغل نفسه دائماً بفعل الخيرات ولا يدع للمدح أو للذم تأثيراً في نفسه سلباً أو إيجاباً"، والاهم هو الاستمرار على هذا النهج واعتباره جزء من سلوكه وقيمه وطبيعته.
ان صلاح المجتمع وسعادته ورفاهيته يبدأ من الانسان نفسه، وكي يتحقق ذلك لا بد من معرفة هوية الانسان الحقيقية التي فطره الله (عز وجل) عليها، هوية تقوم على السلوك القويم والأخلاق والحميدة ونشر الفضائل، والمبادرة للخير والتعاون على البر والتقوى، ونبذ العنف والاثم والعدوان، ومحاربة الجهل والتخلف والاستبداد والظلم، والسعي لمساعدة الاخرين، والمبادرة لتقديم الخدمات دون انتظار الاجر او المقابل المادي: (أولئك يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
وبهذا يسعد الانسان وتنعم الإنسانية بأخلاقها، ويعم العدل والحرية والمساواة والتسامح والعفو، ويصبح فيها المجتمع امة واحدة يسودها المعروف ويكثر فيها الخير، وترتقي فيه لتصل الى اعلى مراتب التطور والرقي الحضاري المادي فضلاً عن التكامل الأخلاقي والكمال الروحي: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
والخلاصة ان الانسان يعرف أوجه الخير والشر، ويعرف سبيل المعروف والمنكر، وان أنكر واعتذر، يقول تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)، وبالتالي فان الانسان سيُقيم في هذه الدنيا وفي الاخرة ايضاً، وفق سعيه ومدارِك فهمه لقيمته كانسان وقدرته على تقديم المساعدة وتحقيق الفارق لنفسه وللأخرين، من دون النظر الى حجم هذه المساعدة او الخدمة، ام طبيعتها المادية والمعنوية، بل بالاستعداد النفسي والمعنوي على تقديمها وهو الأهم.
ويأتي هذا الشهر الكريم ليضاعف قدرة الانسان على العطاء والمبادرة في البذل، وهو امر في غاية الأهمية، فشهر رمضان بما يحويه من صفات روحية ومعنوية ومادية قادرة على تهيئة الانسان ليكون فعالاً في عطاءه، ويمتد تأثيره الى الاخرين، وبهذا يتحقق الخير والسلم والامن والرفاهية للمجتمع من خلال التحلي بقيم الإنسانية في هذا الشهر الكريم.
اضف تعليق