نحن نتكلم عن دور الأب في صياغة شخصية ابنه أخلاقياً وأدبياً في ضوء وصية أمير المؤمنين الى ابنه الحسن، علينا الالتفات ايضاً الى جانب الابن المستمع باهتمام الى الوصايا الصادرة من الأب، كما يعلمنا الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، فالشاب الذي يستمع الى نصائح و وصايا أبيه يربح حياته في الدنيا والآخرة...
"أيّ بُني! إني لما رأيتك قد بلغت سنّاً و رأيتني أزداد وهناً، بادرت بوصيتي إياك خصالاً منهنّ أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي، أو أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى، وفتن الدنيا فتكون كالصّعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لُبّك".
أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن المجتبى، عليهما السلام
الإمام الحسن المجتبى، الثمرة النورانية الأولى لزواج علي بن ابي طالب من فاطمة بنت رسول الله، فأيّ حبٍّ و ودٍّ تُزيّن العلاقة بين الأب والأبن البكر! وأية علاقة نموذجية للأجيال ستكون بين أول إمام معصوم في سلسلة الولاية، مع أول إمام معصوم من ابنة رسول الله، وسبطه وحبيبه!
ارتأيتنا اقتطاف هذا المقطع من وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن المجتبى، من الكتاب القيّم والثر؛ تُحف العقول عن آل الرسول، ليكون محور مقالنا عن ذكرى مولد السبط المجتبى، عليه السلام، رجاء الاستعانة بها لترميم ما تصدّع لدينا من العلاقات بين الأب وأبنائه في الوقت الحاضر، علماً أن الوصية طويلة، بالامكان مراجعة الكتاب لمن يريد الاستزادة من هذا المعين.
الأب ليس معصوماً من الزلل دائماً
من المعروف أن ما يصدر عن المعصومين في علاقتهم مع الله –تعالى- ومع أهل بيتهم، لا ينحصر فيهم شخصياً، وإنما يُعد خطاباً موجهاً لنا وملزماً ضمن منظومة الإيمان، فعندما يُعرب أمير المؤمنين، وهو في مقام الأب عن خشيته من تقادم عمره واحتمال تعرضه "لغلبات الهوى وفتن الدنيا"، فانه بالحقيقة يوجه خطابه لكل أب حريص على صياغة شخصية ابنه بشكل سليم وصحيح لا تعتوره حالات تقاطع مع مستوى فهم واستيعاب الابن، الذي يصف قلبه، عليه السلام، بأنه "كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته".
فكلما قلّت المحورية والذاتية عند الأب، والإيحاء للإبن بأنه مفترض الطاعة، ولا مجال لمناقشته في كلامه وسلوكه، كلما ازدادت الثقة، وقويت الرابطة بين الاثنين على أساس الحب والمودة والاحترام المتبادل، حتى لا نكون أمام عاقبة يشكو منها معظم آباء اليوم وهي؛ النفور، والتي حذرنا منها أمير المؤمنين، عليه السلام.
البداية مع الآداب
يعرف الامام الحسن المجتبى، وهو في مرحلة الشباب بين يدي أبيه، مبادئ الأخلاق الحسنة، فهو لا ينكر، وأي شاب آخر اليوم، أن من الأخلاق؛ التعاون، والتكافل، وحسن الجوار، ومساعدة المحتاجين، واحترام الآخرين، إنما المهم ايضاً على الصعيد العملي؛ الآداب المترجمة لتلك المبادئ والقيم على أرض الواقع من خلال السلوك اليومي بدءاً من داخل البيت، وحتى الشارع وفي كل مكان، فالآداب معنية بالجوارح؛ السمع والبصر واللسان، فما يلمسه الناس؛ آداب المشي، وآداب الأكل، وآداب المعاشرة، وآداب الحديث، وغيرها من الافعال اليومية التي يفترض ان تبدأ من السنين الاولى، فمحبوبية الطفل والشاب في المجتمع متعلقة بمستوى التزامه بالآداب.
وقد قدم لنا الإمام الحسن المجتبى بمعية أخيه الحسين، عليهما السلام، أروع صورة للآداب، وهما في عمر الشباب، عندما لقيا ذلك الشيخ أثناء وضوئه، ولاحظا الاخطاء عنده، فلم يباشرا بالوعظ، ولم يستخدما مكانتهما الرفيعة بين الناس، بل ابتكرا فكرة جميلة بأن يقوموا بمسابقة ويحكموا ذلك الشيخ، إيهما وضوءه أتمّ، وكان من نباهة الشيخ أن اكتشف خطئه برؤيته الوضوء الكامل والصحيح من الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام.
وقد رافقت هذه الآداب الامام الحسن، عليه السلام، طيلة حياته، بفضل هذه الوصية وغيرها من الوصايا وما اقتبسه من سيرة جدّه المصطفى، وأبيه المرتضى، وأمّه الزهراء، التي علمته أدب الدعاء، بأن لا يكون ذاتياً (أنانياً) وإنما: "الجار ثم الدار"، وحتى في طريقة مساعدة الناس، وكيف أنه يسبق السائل بشكواه ويمده بكل ما موجود في الدار من أموال! حتى تحيّر ذلك السائل وقال: يا مولاي؛ ألا تتركني أبوح بحاجتي؟ فبادره الإمام بأبيات عذبة:
نحن أناسٌ نوالنا خِضلٌ
يرتعُ فيه الرجاء والأملْ
تجودُ قبل السؤالِ أنفسنا
خوفاً على وجه من يَسلْ
لو علم البحرُ فضل نائلنا
لفاض من بعد فيضه خجلْ
لولا ترتسم هذه الآداب في القلب والنفس، فان القسوة تحلّ محلها بالتأكيد، بفعل المغريات المادية في هذه الحياة، من مال، وجاه، وسلطة، وهذا ما بينه لنا أمير المؤمنين وحذر من مغبة السقوط فيه؛ الأب والابن والأسرة والمجتمع بأكمله، فنحن نرى قسوة القلب في كل مكان بسبب غلبة المال والجاه على كل القيم والمبادئ، فربما يكون ثمة من يتحدث عن الأخلاق وينظّر لها، لكن نجده يفتقر في الجانب العملي الى الآداب في أبسط الأمور، ربما في طريقة السير بالشارع، او طريقة السلام على الناس، وغيرها كثير من الحركات والسكنات ذات المدخلية في إنجاح العلاقات الاجتاعية، بل حتى داخل الأسرة الصغيرة.
و بعد؛ فنحن نتكلم عن دور الأب في صياغة شخصية ابنه أخلاقياً وأدبياً في ضوء وصية أمير المؤمنين الى ابنه الحسن، علينا الالتفات ايضاً الى جانب الابن المستمع باهتمام الى الوصايا الصادرة من الأب، كما يعلمنا الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، فالشاب الذي يستمع الى نصائح و وصايا أبيه يربح حياته في الدنيا والآخرة، ويخسر كل شيء اذا تجاهلها وتنكّر لها.
اضف تعليق