الأيام ذهبت بكثير من هذه العادات والتقاليد الحميمية، فتغير الناس وتغيرت الأطعمة وتغيرت العادات والتقاليد خصوصاً في الأحياء الجديدة والحديثة التي لم يعد الجار يعرف جاره غالباً، أما الأحياء القديمة والشعبية فمازالت تحافظ على شيء مما تبقى. عادات صادرتها حياة عصرية راعت كل شيءٍ مادي واستباحت الروحي منها والمعنوي...
للمغاربة عادات وطقوس رمضانية خاصة يتناقلونها من جيل إلى جيل، كموروث حي لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه، يحكي روح التراث والأصالة والمحبة والتواصل الديني والأخلاقي، ولكنها عادات تكاد تندثر هذه الأيام بفعل العولمة... ورغم ذلك، فإن عادات وتقاليد رمضان لا تزال قائمة في أكثرها، بخاصة لجهة التميز بأنواع الحلويات الأندلسية نسبة للأندلس التي تشتهر بها فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية كـ “بريوات” و “الرغيفة”... “كريوش”... و”اغريبا” و”الفقاس” و”كعب الغزال” لكن من أشهر أطباق الحلويات في المغرب: “الشباكية”، وهي حلوى بالعسل، و”سلو”، وهو طحين مخلوط باللوز والكاكاو.
وتتنوع الأشكال وتتعدد، كما تختلف مقادير وأحجام وطريقة التحضير من بيت لآخر، لكن النكهة المتميزة والذواقة تبقى علامة بارزة بتوقيع فاسي أندلسي. ومن العادات القديمة التي لازالت بعض الأسر الفاسية تحافظ عليها، الاحتفال بشعبانة الصغيرة، وهي إيذان بقرب حلول رمضان، حيث يعبر الأطفال والكبار بفرحهم بهذا الشهر الكريم، ويحتفي الأطفال على طريقتهم، بإشعال “الحرقيات” و”المتفرقعات”ورميها من فوق السطوح... أما شعبانة الكبيرة، فتنطلق في اليوم الموالي لرمضان، حيث كانت الأسر والعائلات تتجمع فوق السطوح لرؤية الهلال، وهي تلبس أزهى الملابس وأجملها، ومع ظهوره تنطلق طلقات المدافع السبعة، ثم بعدها مباشرة يسمع صوت “الزواكة” أي “المدفع” المنبعثة من البرج الشمالي لفاس المدينة.
كانت تسود مدينة فاس المغربية في هذا الشهر المبارك عادة اجتماعية فريدة من نوعها، ففي مساء اليوم الأول من شهر رمضان يبدأ أفراد الأسرة الفاسية بزيارة بعضهم للتهاني والتبريك. “مبروك العواشر” أو “عواشر مبروكة” هي العبارة الأكثر تداولا بين المغاربة قبل وخلال، بل وبعد رمضان أيضاً. وهي تعني: مبروك رمضان، ومبروك الأيام الفضيلة التي تكثر فيها العبادات وصلة الرحم والتضامن. وعندما يقول الفاسي: “مبروك العواشر”، فإنه يقصد العشرة أيام من الرحمة، والعشرة أيام من المغفرة، والعشرة أيام من العتق من النار. ولا تقتصر “مبروك العواشر” على رمضان، إذ يرددها المغاربة في مناسبات دينية أخرى، فمثلا ترتبط بالعشر الأواخر من شهر ذي الحجة. وأهم ما يقوم به “الفاسيّون” هو توافدهم إلى مجلس كبير الأسرة فيقبلون يده مباركين بقدوم رمضان وغالباً ما يكون إفطار اليوم الأول عند عميد العائلة وكبيرها وإفطار اليوم الثاني عند أكبر أولاد عميد العائلة سناً، وهكذا تستمر هذه الحال أياماً وقد تمتد إلى معظم أيام الشهر المبارك.
وإذا كان الأسبوع الثاني من الشهر، يكون دور النسوة في التهاني والتبريك برمضان، فتلغي المواعيد المعتادة للاستقبال، ويصبح للشهر خاصية مميزة، كنت ترى النسوة يتبادلن في زياراتهن لبعضهن الأحاديث التي تتعلق بإعداد مائدة إفطار ذلك اليوم، وفي المساء يتبادلن ويتهادين الأطعمة، فتتلون مائدة كل منهن بشتى أنواع الأطعمة. فضلاً عن ذلك فإن منهن من كانت تقوم بالذهاب إلى المقبرة عصر اليوم الأول من رمضان وقد أخذت معها نواشف الأطعمة وبعض الحلوى والتين المجفف وفطائر الخبز لتوزيعها على المحتاجين.
وكان الأطفال يشاركون الكبار صيام أيام شهر رمضان، ومن ثم فإن الأسرة تحتفي بذلك، وكنت ترى الجدة تحمل حفيدها الصائم على ظهرها وتطوف به أركان المنزل سبع دورات، وكان صيام الطفل في الأيام الأولى من صيام من الصباح حتى الظهيرة وهذا ما يعرف بصيام درجات المئذنة ثم يواصل الطفل ذلك حتى صيامه النهار كاملاً، وكان الطفل الصائم يباهي أنداده بصيامه. وقد كان الاحتفاء بهذا الشهر الكريم بما يتناسب ومقامه في نفوس الناس فتشع في النفوس روح التسامح والمحبة وتعمد إلى إنارة مساجد المدينة القديمة وإعدادها وتقام موائد الإفطار للعامة...
وهذه سنّة قديمة تعود إلى مؤسس مدينة فاس المولى إدريس الثاني... وكان ينفق على تلك الموائد من الأوقاف التي أوقفها أهل الخير والبر والمدارس لتقديم العلم والطعام لطلبة العلم فيها. كان الصائم الفاسي يجد متعة لا تضاهيها متعة للاحتفال، حيث يعتبر كل التعب و “المال المبذولين أمرا” مستحبّا وجميلا، ولا يشكّل الصوم، عائقاً أمامه في ممارسة أعماله الاعتيادية، فكان يذهب إلى عمله حيث يشكّل الصوم متعة إضافية، فهو ـ أي العمل ـ تأكيد على جوهر الصوم من حيث كونه قهراً للذات من ناحية، ومن ناحية أخرى هو أيضاً تأكيد على الحالة الصحية الجيدة التي يشعر بها الصائم الفاسي، ولعل القيام بأعباء العمل تصبح أكثر بهجة لأنّ الصائم الفاسي يستشعر طمأنينة في علاقته مع ربّه، الأمر الذي يصبح في حد ذاته دافعاً إضافياً لتجديد علاقة الإنسان مع نفسه ومحيطه وعمله، هذا دون أن ننسى أنّ العمل والانشغالات في شتى أنواعها إنّما تمثل في نظر الكثيرين مجالا لتبديد الوقت الذي قد يبدو أشد وطأة في انتظار ساعة الإفطار.
وفي مكان آخر بعيدا عن العمل يتجلى النزوع إلى تأدية الواجب المرتبط بروحية الصوم وهو الانهماك في تحضير مائدة الإفطار، وغالباً ما تختص به النسوة في المنازل، بين انشغال وتحضير وإعداد، من السوق إلى المطبخ إلى مائدة الطعام، تمهيدا للحظة الإفطار... انهماك حقيقي يتعدى أحياناً مجرّد العمل اليدوي ليتحوّل إلى قلق وعبء ذهني يليق بالمائدة وهالتها المنوط بهن تحضيرها، كرّ وفرّ بين المنزل والسوق، تتخللها استشارات واستفسارات قد تنتهي أحياناً بالتشاور مع الجارات وتبادل الأفكار فيما يخص الأكلات الجديدة... كانت مائدة رمضان وعلى مدى ثلاثين يوماً تجمع حولها عند كل غروب شمس أفراد العائلة الواحدة، الأمر الذي قد لا يكون متاحاً في مناسبات أخرى، فتكون أجمل الأوقات بالنسبة للصائم الفاسي هي التي يقضيها إلى مائدة الإفطار فهي وقت الاجتماع بالأهل والأقارب والأصدقاء، الجميع حول مائدة واحدة، يتشاركون طعاماً واحداً وشراباً واحداً، إنّه وقت الألفة العائلية التي قلّما يجدها المرء في أوقات أخرى وموائد أخرى.
كانت هذه اللقاءات غير محصورة بالأهل والأقارب بل تتعداهم إلى الخارج أيضاً، فالبعض يؤثر قضاء الوقت أو بعضه في الجوامع القديمة بالمدينة العتيقة، التي تكتسب بدورها هي أيضا دلالة مختلفة في ليالي رمضان عن سواها من الليالي، فعلاوة على الواجب الديني “أداء صلاة التراويح”، يجد الصائم الفاسي متعة خالصة في ارتياد الجوامع التي تشع عراقة وأصالة وحضارة، كجامع القرويين الذي شيّد في 859 ميلادية (245 هجرية) على يد “فاطمة الفهرية” وجامع الأندلس الذي شيدته “مريم الفهرية” سنة 860 ميلادية (246 هجرية)... والأختين من أسرة قيراونية، مات أبوهما “محمد الفهري القيرواني” وخلّف لهما مالاً كثيراً، ففكرت فاطمة في بناء جامع القرويين بهذا المال الموروث وفكرت أختها مريم في بناء جامع الأندلس وشرعتا في ذلك سنة 245هـ.
إن هذا الشعور الديني الذي شع من هاتين المرأتين ليعد مفخرة من مفاخر المرأة العربية المسلمة وليعتبر من أقوى مظاهر الرقي الفكري عند نسائنا في الماضي، وأن تفكير السيدة مريم القيروانية لنستدل به على الانسجام الذي كان سائدا بين سكان فاس أيام الأدارسة وعلى التآلف الحاصل آنذاك.
يبقى أنّ أهم ما في شهر رمضان المبارك كان في الماضي هو وقت “السحور” أو “السحر”، والمسحر أو “المسحراتي” من يوقظ الناس لتناول السحور في شهر رمضان فيدور على البيوت قبل الفجر بساعتين وفي يده طبل يضرب عليها بعصا، ويتغنى بأقوال مختلفة وكان لكل حي مسحر خاص به، ينقر على الطبل، ويضرب على الباب بيده وينادي صاحب الدار باسمه. وبعد امتداد عمران فاس أصبح لفاس عدد من المسحرين يتوارثون العمل، ولكل منهم مطاف خاص به، فإذا كان وقت السحور، يقوم كل مسحر بإيقاظ الناس في المنطقة التابعة له. وفي منتصف الليل يهب مسحرو فاس من رقادهم ليتزودوا بعدة العمل الطبل والسلة، وينطلقون في الحارات الملتوية المظلمة الهادئة حيث يصفو الفكر وتلف الكون روحانية وقدسية تغفو في أفيائها النفوس... وكان يرافق المسحر شخص يحمل الفانوس ثم اختفى الفانوس وبقي المسحر الذي ما زال يجوب حارات ودروب وأزقة فاس... ويتقاضى في آخر شهر رمضان “الفطرة” بلغة المغاربة و”العيدية” بلغة الشرق العربي، من أصحاب البيوت التي كان يطوف عليها.
ولا بد من القول إننا إذا أصبحنا في عصر يتوفر فيه وسائل عديدة لتنظيم سحور الناس دون المسحر لذلك فإن الكثير من أبناء جيل أوائل القرن العشرين لا يزال يشعر بالحنين إلى ما كان عليه المسحر في تلك الأيام. ويبلغ الاحتفاء بهذا الشهر ذروته بإحياء ليلة السابع والعشرين منه ليلة القدر التي يشارك في إحيائها الجميع... فبعد الاحتفال الرسمي في سائر مساجد المدينة... تقام الأناشيد الدينية وإنشاد المدائح النبوية.
هذه كانت أبرز تقاليد رمضان في مدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية... لكن الأيام ذهبت بكثير من هذه العادات والتقاليد الحميمية، فتغير الناس وتغيرت الأطعمة وتغيرت العادات والتقاليد خصوصاً في الأحياء الجديدة والحديثة التي لم يعد الجار يعرف جاره غالباً، أما الأحياء القديمة والشعبية فمازالت تحافظ على شيء مما تبقى. عادات صادرتها حياة عصرية راعت كل شيءٍ مادي واستباحت الروحي منها والمعنوي، وباتت أكثر سوءاً بانتشار فضائيات جعلتنا رهائن لديها بما تبثه من برامج ومسلسلات على ضوئها يحدد معظمنا مواعيد زياراته واستعداده لاستقبال الآخرين، طقوس على بساطتها تنعش الروح وتبعث الحياة لذلك لابدَ من إحيائها خاصة وأنها لم تكن يوما إلا رسائل محبةٍ وتراحم، وشعور بالآخر... وهو غاية شهر الصوم ومبتغاه...
كان شهر رمضان بمثابة شهر التواصل الاجتماعي والزيارات المتبادلة، تستعد كل أسرة بمائدة كبيرة تكفي جميع أفراد الأسرة على المستوى الكبير، الأعمام والأخوال والأبناء، ويلتف الجميع حول هذه المائدة، متناسين ما كان من خلافات، قبل مجيء رمضان. فالكل مع الصيام يتناسى الخصام، ويتصالح الجميع حول هذه المائدة ذات المفعول السحري. فكان رمضان شهر رمضان شهر التواصل الإجتماعي بكل صوره، لكن هذه السمة الجميلة بفاس العلمية، بدأت تذهب نظراً لانشغال الجميع بهموم الحياة التي لا تنتهي، فأصبحت لقمة العيش صعبة جداً، لدرجة أن رب الأسرة لا يجد الوقت في التفكير ما يخص التواصل الاجتماعي وغير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها الناس، حاجة ماسة كي يعيشوا حياة سوية. فانتشار القنوات الفضائية ودخولها لمنازل الفاسيين عبر الصحون اللاقطة، قد غير الكثير من عادات الأسر الفاسية بخاصة شهر رمضان المبارك.
فبعد أن كان الأقارب والأصدقاء يلتقون كل يوم على الإفطار عند أحدهم وبالتناوب لتناول الإفطار والتي تطبخه ربة المنزل المستضيفة لهؤلاء بشكل متقن وترسل قسماً مما تطبخ لجيرانها المقربين منها الذين يقومون بدورهم بإرسال قسماً مما أعدوه للافطار إلى الجيران في ظاهرة اجتماعية جميلة، قد خفت كثيراً عند الكثير نظراً لانتشار مفردات الحياة العصرية ومحدودية الدخل وغلاء الأسعار لاسيما في ظل غلاء المعيشة، كما اختفت اللمة التي كانت تجمع حتى الأسرة الواحدة في المنزل حيث بات كل فرد من الأسرة يتناول إفطاره بمفرده أحياناً، وهو يتابع برنامجه ومسلسله المفضل على الفضائيات العربية. وكما شهد تغير العادات الفاسية في الفترة المتضمنة ما بين الإفطار والسحور، بينما كان سابقاً يشهد لقاءات الجيران وجلوس النساء مع بعضهن فيما يكون الرجال في صالة أخرى... فإنّ هذه العادات تغيرت في السنوات الأخيرة وباتت كل عائلة تفضل السهر لوحدها في منزلها وأمام شاشات التلفاز أو في المطاعم والفنادق الفاسية...
وأخيراً لابد من القول: رمضان سيظل هو الشهر الكريم الذي يجمع العائلة على مائدة واحدة، رغم قلة الدخل والمعاناة من الحياة الاقتصادية، وسيظل وجود كبار العائلة في الأسرة في ظل الروحانيات الدينية والاجتماعية، رغم عدم تواصل الكثير من الأبناء المعاصرين مع أفراد العائلة واستبدالهم السهر في المطاعم والمقاهي الشعبية محل مجالس الأسرة، وغياب مفاهيم كثيرة في الأسرة المعاصرة في ظل الغزو الثقافي الذي دمر الروح الأسرية والروابط الاجتماعية، إلا أن رمضان سيظل الممثل الأهم للوحدة الاجتماعية للحفاظ على استقرار الأسرة الكبيرة، وحتى الصغيرة.
اضف تعليق