{وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
اذا كان اليتيمُ لا تُسلّم له اموالهُ الا بعد اختبارهُ للتأكّد من انّهُ قد بلغ الرّشد، فلا يعبث بها او يتلفها، فكيف بمن نريد ان نسلّمهُ البلاد والعباد والمال العام؟!.
على الصّعيد الشّخصي، ينبغي مراقبة اليتيم واختبارهُ لحين التأكّد من رشدِه قبل تسليمه مالهُ الشّخصي الذي ورِثَهُ من أبويه، فكيف اذا كان الامرُ يخصّ أمّةً وشعباً وبلداً بالكامل؟ يخصُّ الدم والأرض والعِرض والمال العام؟ أوليسَ من الاولى اختبار السّياسي وامتحان الزعيم قبل ان نسلّمهُ ايّ منصبٍ او موقعٍ في الدّولة؟!.
لو كُنّا قد فعلنا ذلك لما تسلّطَ على رقابِنا من يسمّونهم بسياسيّي الصّدفة! من {الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}.
والاغرب من ذلك، هو انّنا لا زلنا نستنسخ السّياسيين من خلال استبدال مواقعهم فقط، وكأنّ تجربة (١٣) سنة من الحكم والتسلّط لا تكفي! لاختبارهم وامتحانهم وتقييمهم واكتشاف قدراتهم؟! وما اذا كانوا قد فشِلوا ام لا؟!.
ربّما يُعذَرُ المرء في اختيارهِ بداية التّجربة، كونهُ لم يكن يعرف السياسيّين ولم يختبر القادة، امّا ان يكرّر التجربة على مدى اكثر من عقدٍ من الزّمن، فهذا يعني انّ المشكلة ليست في القادة وانّما في المجتمع الذي يصرُّ على تكرار تجاربهِ الفاشلة من خلال اعادة استنساخ الفاشلين، وقديماً قيل [ليس من العيبِ ان تولد فقيراً، ولكن من العيب ان تموتَ فقيراً].
ما العمل اذن؟.
الف؛ ينبغي ان نُراقب المسؤول طوال الوقت، خطاباتهُ، آراءهُ، أفكارهُ، مشاريعهُ، رؤاه،ُ لنتأكّد دائماً ما اذا كان راشداً بالفعل ام لا؟ وما اذا كانت عقليّتهُ تتطوّر بمرور الوقت ومع التجربة، ام انّه (حيط) لا يتعلّم ولا يتطوّر ولا يتغيّر ابداً، توقّف عِنْدَهُ الزّمن وكلّ شيء لحظة تسنّمه المنصب والموقع، وكأنّه آخر المنى والاهداف!.
باء؛ هذا يحتاج الى ان لا نُعير كثيرَ اهتمامٍ لحديثِ المسؤولِ عن نّفسه، وانّما نقيّمه من خلال الرؤية والانجاز، اذ ليس هناك مسؤولٌ لا يتحّدث عن نفسه بايجابيّة، فيمدح نَفْسَهُ وينسج حولها الاحلام والاكاذيب، وينسب لها الإنجازات الوهميّة والنجاحات الخياليّة، ويُبعد عنها كل شبهات اللصوصية والدّجل والفشل والعجز والاتّجار بالدّين والوطن والحقوق، ولذلك علينا ان نراقب رؤاه وانجازاتهُ ولا نكتفي بِما يقولهُ عن نّفسه.
جيم؛ ومن اجلِ ان نقيمّ المسؤول بشكلٍ سليم وبإنصاف، علينا ان لا نذوب فيه حباً ولا نموت منه بغضاً، وانّما علينا ان نراقبهُ بعين الحريص المتفحّص الذي تهمّهُ مصلحةِ البلد ومستقبل الشعب، فنعترف له بالنجاح ونحاسبهُ اذا فشل، ونُسائلهُ اذا حامت حوله شبهة.
انّ الّذين يعيشون العُقد والامراض النفسيّة، وتمتلئ صدورهم حقداً وبغضاءً، او الذين يعبدون الزعيم ويهيمون فيه حباً وعشقاً، هؤلاء لا يقيّمون المسؤول بشكلٍ منصفٍ ابداً، فهم عادةً ما يخطأون في التقييم.
بناءاً على ذلك، فليس من المُستغرب ابداً ان ترى بعض {عَبَدَ الطَّاغُوتَ} لازالوا يبرّرون للقائد الضرورة ويدافعون عنه، ويتمنَّون ان لو كانوا يستنسِخونَ (شخصهُ الكريم) ليظلّ يحكم اولادهم وأحفادهم! لماذا؟ لانّهم عبدوه ثمّ قيّموه، والعبادة هنا لا تعني القناعة ابداً، وانما مبعثها المصالح الانانيّة تارة ًوالحزبيةَ اخرى والعشائرية ثالثة، بعد ان محا امثال هؤلاء الوطن ومفاهيم الوطنية والمواطنة من قاموسهم!.
انّ الرّقابة والاختبار المستمر للمسؤول للوقوف على مُنحنى سيرتهُ ومسيرتهُ في موقع المسؤولية، مبعثهُ روح المسؤوليّة الوطنيّة التي يجب ان يتحلّى بها المواطن لتحكُمَ مواقفه، اما قول البعض (ضعها برأس العالم واخرج منها سالماً) هرباً من مسؤولية الاختيار والرقابة، فان ذلك لا يشفع له تقاعسهُ عن تحمّل واجبه ازاء الشأن العام ابداً.
انّ الّذين يكتفون بالإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع، من دون متابعة المسؤول بشكلٍ مستمر، فيُحاسبونهُ اذا فشِلَ ويكرّمونه اذا نجحَ، يتحمّلون المسؤولية كاملةً إِزاء ما يمرّ به البلد، اوَلَمْ يقُلْ رسول الله (ص) {كلُّكُم راعٍ وكُلّكُم مسؤولٌ عن رعيّتِهِ}؟ فكيف يحاول البعض التهرّب من تحمّل المسؤولية؟ لماذا يحرص المواطن على متابعة الفلس في تجارتهِ ولا يحرص على مراقبة المال العام؟ او انه يغضّ الطرف عن كلِّ ما يسمعَهُ عن المسؤول وسرقاتهِ وفسادهِ المالي والاداري بحجّة انّه مسؤول امامَ الله تعالى فما دخلي انا؟ انّ هذا النّوع من التفكير هو الذي يمكّن الفساد من الانتشار والفاسدين من التغَوّل.
كان يُمْكِنُ ان يأمر القران الكريم كافل اليتيم القاصر بتسليمهِ اموالهِ حال بلوغ سنّ الرّشدِ مثلاً، من دون ان يأمره باختباره وامتحانه للتثبّت من رشده، فالمال مال اليتيم، وكافلهُ ليس اكثر من امينٍ على هذا المال ولا دخل له فيه، فلماذا كلّ هذا التشدّد؟!.
لقد اراد المشرّع الحكيم ان يعلّمنا معنى المسؤولية، فالأمانةُ ليست مجرّد حِملٍ ثقيلٍ تتحيّن اقرب فرصة لرميهِ من على كاهلك (حيّ الله كان) ابداً، فكما ينبغي ان يكون حمل الأمانة بتأنٍّ واختبار ومسؤولية، كذلك فانّ رميها من على كاهلك ينبغي ان يكون باختبار وتأنٍّ ومسؤولية.
يجب ان نتعامل مع كلّ شَيْءٍ في هذه الحياة بمسؤولية، فلا ينبغي التهرّب منها برميها على الاخرين، والّا فكلّنا سنتحمّل وزر ما تؤول اليه الامور، وهذا ما نراه اليوم في العراق، فهلْ يستطيعُ احدٌ ان يتهرّب من الواقع المرير بحجّة انّهُ لم يتدخّل في الشأن العام يوماً؟ او انّه لم يساهم في صناعته؟ ابداً! ناسياً او متناسياً ان السّكوت والانسحاب، هو الاخر له ثمنٌ يجب ان يدفعهُ المرء، لانّه موقف ولكن بطريقة اخرى، كالسّكوت الذي وصفه رسول الله (ص) بقوله {السّاكتُ عَنِ الحقِّ شيطانٌ أَخْرَس}!.
انظروا كيف سنُحاسب على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ يوم القيامة، اذ لا مهرب من المسؤولية ابداً، فقال تعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
اضف تعليق