زكاة الأبدان؛ وهي زكاة الفِطر والفِطرة؛ وهي التي يدفع الله بها عن الأجسام والأبدان فهي صدقة عنا جميعاً لدفع الأعراض والأمراض التي يمكن أن تصاب بها أجسامنا، وهي من أعظم الصدقات التي لا نعرف، ولا نشعر مدى أهميتها لولا أن بيَّنها لنا أئمتنا الكرام (ع)، وأمرونا...
تقديم إيماني
الإسلام دين الفطرة النقية الصافية التي لم تُدنَّس من أهل الأرض، كالوالدين والمجتمع المحيط، قال رسول الله (ص): (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)
وفي رواية أخرى: (كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بان الله خالقه).
ولكن ما معنى الفطرة؟ قال في النهاية: "كل مولود يولد على الفطرة، الفَطرُ؛ الابتداء، والاختراع، والفِطرة منه الحالة كالجِلسة والرِكبة، والمعنى أنه يولد على نوع من الجِبلة والطبع المتهيّئ لقبول الدِّين، فلو تُرك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يَعدل عنه مَنْ يَعدل لآفة من آفات البشر والتقليد، ثم تمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لآبائهم، والميل إلى أديانهم من مقتضى الفطرة السليمة، وقيل: "معناه كل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحداً إلا وهو يُقرُّ بأن الله صانعه وإن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره، ومنه حديث حذيفة: (على غير فِطرة محمد)، أراد دين الإسلام الذي هو منسوب إليه (ص).
وقيل: الفِطرة بالكسر؛ مصدر للنوع من الإيجاد وهو إيجاد الإنسان على نوع مخصوص من الكمال وهو التوحيد ومعرفة الربوبية مأخوذاً عليهم ميثاق العبودية والاستقامة على سنن العدل) (مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج 7، ص: 55)
فالبشر فُطروا على التوحيد، والعدل، والإيمان بالمبدأ والميعاد، ولكن التلوث يطرا عليهم من الخارج وأول ملوِّث لهم هم الوالدين، والأسرة والبيت الذي يعيشون فيه، ولذا أولى الإسلام العظيم مسألة الأسرة وتكوينها، وتربيتها، واختيارها، وتوجيهها من أولى مسؤولياته في بناء المجتمع الإيماني، والحضارة القيمية في هذه الحياة.
وذلك لأن الفرد الصالح إذا رعيناه، وارشدناه إلى المرأة الصالحة وتعاهدناهما بالصلاح وربيناهما على التقوى من أول الأمر فهم سيُكونون أسرة صالحة تقية تسعى لبناء مجتمع تقي أيضاً.
العبادات المالية
وانطلاقاً من تلك المقدمة الإيمانية البسيطة والسريعة نعرف أن الخالق تعالى خلق الإنسان وهو اجتماعي بالطبع، أي لا يمكن له أن يعيش مفرداً بل لا بد له من جماعة ليعيش معهم، وليعيش مع الجماعة بشكل طبيعي عليه أن يكون متفاعلاً وأخلاقياً، لأن أساس المجتمع التعامل والتفاعل بين أفراده، فقد ورد في الحديث الشريف: (الدِّين المعاملة)، ولكن الإسلام العظيم لم يوجه الإنسان ليكون كغيره فقط حسناً في معاملاتهن بل أراد منه أن يكون فاضلاً في نفسه ومتفضلاً على غيره من أبناء مجتمعه.
والمجتمع يقوم أساساً على الاختلاف، في كل شيء، ولكن لدينا مبادئ حاكمة عليه، وقوانين ناظمة له، بينها القرآن الحكيم، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)
فالتعارف في المجتمع أساس، والتواصل، والتفاعل بين أبناء المجتمع هو الحالة الطبيعية وأما ميزان التفاضل فهو مسالة أخرى حددها الخالق سبحانه في الآية (الأتقى) هو الأرقى، وذلك لأن تشخيص الأتقى هو الله سبحانه العليم بالخفايا، والخبير بالنوايا، والمطلع على أسرار القلوب، فهو علام الغيوب، ولذا وضع لنا قوانين، وتشريعات ليعلمنا أصول التواصل الاجتماعية فيما بيننا، كصلاة الجماعة، والأهم الجمعة بآدابها، كالحج وعظمته، ومنها أيضاً العبادات المالية كالزكاة، والخُمس، والصدقات بأنواعها، هذه العبادات لها وقع اجتماعي عظيم، لتنمية روح المحبة والإخاء بين أفراد المجتمع الإيماني.
فالمجتمع الإسلامي وصفه ربنا سبحانه وتعالى بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)
فالعلاقات في مجتمعاتنا يجب أن تقوم على هذه الركيزة والأساس القوي جداً بل لا يوجد علاقة اجتماعية كالأخوة قوة، ولذا نشبِّه الأخ بالظهر، وفقده يكسر الظهر للإنسان، ألا تجد أن الإمام الحسين (ع) حين فقد عضيده وابن والده العباس ماذا قال؟ قال: (الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي) (معالي السبطين 446:1، مقتل الخوارزمي 30:2)
ولذا أمر الله سبحانه رسوله الكريم (ص) أن يؤاخي بين المسلمين، فآخى بينهم مرتين في مكة أولاً بين المسلمين فيها، ثم بين المهاجرين والنصار في المدينة المنورة، وكانت على أساس التقارب الفكري والطبعي ليكونوا أقرب الناس في الطباع والإيمان أيضاً فكانت تلك الحادثة التي جرت لول مرة في التاريخ البشري، وحتى كانوا يتوارثون –كما يذكر الإمام الشيرازي الراحل– إلى ما بعد غزوة بدر حيث منَّ الله عليهم بالغنائم، ووسَّع عليهم فيها، فنزلت آية المواريث.
وأحد أهم ركائز الأخوة هو التواصل، والتباذل، والعطاء على أساس الإحسان، لوجه الله تعالى كما فعل أهل البيت (ع) حين فعلوا كما قال الله تعالى عنهم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان: 9)
فالباحث في الجوانب الاجتماعية في الدين الإسلامي يجده أنه بكل ما فيه، حتى العبادات، لها جنبة اجتماعية راقية جداً، لأن الجنة مشروع خاص (فردي)، ولكن الحياة مشروع عام (أمة)، علينا السعي الخاص بالخفاء، ولكن العام علينا العمل جميعاً، وأن نشجِّع بعضنا البعض، ويأخذ بعضنا بيد البعض الآخر، لما فيه صلاحنا، وصلاح مجتمعنا وأمتنا كلها، ومن ذلك ما ورد في هذه الأيام الرمضانية المباركة، عن أبي عبد الله الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (مَنْ فَطَّرَ صائماً فلـه مثل أجره)، وفي رواية أخرى أعظم عن أبي الحسن الإمام موسى (عليه السلام) قال: (فطرك أخاك الصائم أفضل من صيامك). (شهر رمضان؛ الإمام محمد الشيرازي: ص38)
فهل هناك تشجيع كهذا التشجيع الذي يجعل الأجر أغلي واثمن من أصل العمل؟ وذلك للجنبة الاجتماعية المهمَّة جداً في التشريعات الإسلامية، وربما ورد ما هو أعظم من ذلك أيضاً كما في الرواية التي ينقلها الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره)؛ وهي عن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (دخل سُدير على أبي (عليه السلام) في شهر رمضان، فقال: يا سدير هل تدري أي الليالي هذه؟
فقال: نعم فداك أبي هذه ليالي شهر رمضان فما ذاك؟
فقال لـه: أتقدر على أن تعتق في كل ليلة من هذه الليالي عشر رقبات من ولد إسماعيل؟
فقال لـه سدير: بأبي أنت وأمي لا يبلغ مالي ذاك.
فما زال ينقص حتى بلغ به رقبة واحدة، في كل ذلك يقول: لا أقدر عليه.
فقال لـه: فما تقدر أن تُفطر في كل ليلة رجلاً مسلماً؟
فقال لـه: بلى وعشرة.
فقال لـه أبي (عليه السلام): فذاك الذي أردت يا سُدير، إن إفطارك أخاك المسلم يعدل رقبةً من ولد إسماعيل (عليه السلام) (شهر رمضان السيد الشيرازي: ص40 عن وسائل الشيعة: ج10 ص139 ب3 ح13047)
نعم؛ بهذه الرؤية الاجتماعية العظيمة أراد الإسلام أن يبني مجتمعه الخاص، ويُبين رؤيته الفكرية والعقائدية في الحياة الاجتماعية، وهذا ما تميَّز به المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات البشرية وعلى أساسه يجب أن نلاحظ كل التشريعات القِيَمية الحضارية فيه، وإلا فإننا لن نفهم الكثير من التشريعات خصوصاً في باب المستحبات الاجتماعية من الآداب والأخلاقيات.
تشريع الزكاة وزكاة الفطرة
في التشريع الإسلامي لدينا عبادات عقائدية قلبية، وعبادات عملية ظاهرية كالصلاة، والجهاد، وعبادات مالية أيضاً وهي أنواع كما يُقسمها الأعلام ومراجعنا الكرام، وأساسها (الزكاة) وهي نوعين أيضاً:
- زكاة الأموال، وهي تشريع لتطهير الأموال بإخراج النصاب المحدد لعيش الفقراء والأصناف الثمانية الكثر فقراً وتضرراً في المجتمع الإسلامي، فهؤلاء جعل الله أقواتهم في أموال الأغنياء ليختبر كلاً منهم بصاحبه، ولذا قال أمير المؤمنين (ع): (إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مَنَعَ بِهِ غَنِي، وَاللهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذلِكَ) (نهج البلاغة: ح319)
- زكاة الأبدان؛ وهي زكاة الفِطر والفِطرة؛ وهي التي يدفع الله بها عن الأجسام والأبدان فهي صدقة عنا جميعاً لدفع الأعراض والأمراض التي يمكن أن تصاب بها أجسامنا، وهي من أعظم الصدقات التي لا نعرف، ولا نشعر مدى أهميتها لولا أن بيَّنها لنا أئمتنا الكرام (ع)، وأمرونا بإخراجها عن كل نسمَةٍ عندنا حتى الضيف النازل والنائم عندك ليلة العيد عليك أن تُخرج زكاة فطرته، وهي التي حددها أمير المؤمنين (ع) في خطبة العيد كما يُروى عنه (ع) انه قال: (وأدّوا فطرتكم فإنها سنّة نبيّكم، وفريضة واجبة من ربّكم، فليؤدّها كلّ امرئ منكم عن عياله كلّهم، ذكرهم وأُنثاهم، وصغيرهم وكبيرهم، وحرّهم ومملوكهم، عن كلّ إنسان منهم؛ صاعاً من تمر، أو صاعاً من بُرٍّ(قمح)، أو صاعاً من شعير) (مفاتيح الجنان).
فلسفة زكاة الفطر الاجتماعية
هذه هي زكاة الفطر التي يُؤديها قبل صلاة عيد الفطر، أو تعزلها ثم تذهب لتؤدي صلاتك، فما معنى ذلك؟ وإلى أي شيء تُلفتنا هذه النُكتة فيه؟ وعلى أي أمر يُريد أن يدلنا هذا التشريع؟
ألا يدلنا على أن عبادتك العظيمة هذه (صوم شهر رمضان) الذي وصفه الباري في الحديث القدسي بقوله: (الصوم لي وانا أجزي به)، ليقول لنا: ولكن هذا الأجر والثواب موقوفاً حتى تواسي أخاك الفقر، وتُسعده في العيد، وتُسعِد عياله وأبناءه كما تُسعد اهلك وأولادك؟
ونحن هنا يجب أن نلتفت إلى مسالتي في غاية الأهمية في هذا الظرف والوضع الذي نعيش فيه من حيث الخوف من هذا الوباء القاتل، وهذه الجائحة الظالمة التي فتكت ومازالت تفتك في المجتمعات البشرية وإلى الآن لم يكتشفوا أصلها، ولم يعرفوا دواء لها، فعلينا إذن أن نتعايش معها وأن نُحصِّن أنفسنا ضدها وهذه فرصتنا أيها الحباب.
أولاً: زكاة الفطرة هي زكاة الأبدان، فإننا عندما نخرجها فإننا نُحصِّن أبداننا من هذا الوباء الذي اقلقنا وأربك حياتنا جميعاً، فهي صدقة نتصدق بها على أنفسنا وأبداننا وأجسادنا فالصدقة تدفع البلاء والقضاء وقد أُبرم إبراماً –كما في الرواية الشريفة– فلنتصدَّق عن جميع مَنْ عندنا ونخاف عليهم بهذه النية الخالصة المخلصة، وسبحان الله –كتجربة شخصية– في بداية الأزمة السورية التي مازالت مستمرة ومتفاقمة للسف الشديد، كنتُ أُأكد على جميع الأخوة على إخراج زكاة الفطر، ولو استدانها، فكان بعضهم يسألني عن ذلك فأشرح له فلسفتها وأنها صدقة عن الأبدان فحصِّنوا أبدانكم فيها، وفعلاً الكثير من الأخوة الكرام فعل ذلك بحمد الله.
ثانياً: هي للتواسي بين الأخوة؛ لأننا نعيش في هذا الوضع الخانق ولدينا الكثير من العوائل الفقيرة والتي وقفت حياتها وتعطلت تماماً بسبب هذا الوباء وهذا الحجر الصحي المفروض على الجميع ولكن الكثير من هؤلاء الكرام يُعانون في تأمين غذاء عيالهم ودواء أطفالهم، وها هو العيد على الأبواب ومتطلباته كثيرة لنشر البهجة والفرح والسرور على جميع الأبناء، وفي كل الأسر وليس في بيوتنا وأبنائنا فقطن وهذه الفطرة الواجبة علينا جميعاً، ونُضيف عليها قليلاً بنية الصدقة المستحبة ونوصلها في وقتها أو حتى قبل وقتها لمستحقيها لنكم تدخلون الفرح على قلوب الكثيرين صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، قال الإمام الصادق(ع): (ليس من الأعمال عند الله عز وجل بعد الإيمان أفضل من إدخال السرور على المؤمنين)، وفي رواية طويلة عن الإمام السجاد علي بن الحسين (ع) يقول فيها: (مَنْ قضى لأخيه المؤمن حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها مائة حاجة في إحداهن الجنة، ومَنْ نَفَّسَ عن مؤمن كُربة نفَّس الله عنه كُرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومَنْ أعانه على ظالم له؛ أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومَنْ سَعَى له في حاجته حتى قضاها له فيُسَرُّ بقَضَائها كان إدخال السُّرور على رسول الله (ص)، ومَنْ سقاه من ظَمَئ سقاه الله من الرَّحيق المختوم، ومَنْ أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومَنْ كَسَاه مِن عُريٍّ كساه الله من إستبرق وحرير، ومَنْ كساه من غير عُري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسوِّ من الثوب سِلك..)
أدخلوا السرور على قلب رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) يا مؤمنين..
جعلنا الله وإياكم من خدام الحق في الخلق، وممَنْ يُدخلون السُّرور على قلب إمامنا صاحب العصر والزمان (عج) الذي ينظر إلى شيعته ومواليه بعين الرَّحمة واللطف فيسرُّه ما يسرُّهم إن شاء الله تعالى، تقبل الله صيامكم وقيامكم وزكاتكم، وجعلها الله حصناً تُحصِّنكم في حياتكم.
اضف تعليق