ملفات - شهر رمضان

ثقافةِ التَّمكين في المُجتمعات النَّاجحة

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ السَّابِعَةُ

إِذا أَردنا أَن نُمكِّن المُجتمع فيلزَم أَن يتمكَّن الفرد، والعكسُ هوَ الصَّحيح، فالتَّمكينُ يتحقَّق بالتَّكافُل والتَّكافُؤ، وأَنَّ مَن يتصوَّر أَنَّ بالإِمكانِ خلقِ مُجتمعٍ مُتمكِّن مِن دونِ أَن يخلقَ فرداً مُتمكِّناً فهو على وهمٍ كبيرٍ. نجاحُ المُجتمعِ يتحقَّقُ بنجاحاتِ أَفرادهِ. والتَّمكينُ بهذا الصَّدد على مُستويَينِ؛ تمكينٌ...

(٧)

{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

كيفَ يكونُ التَّمكينُ مُستقرّاً لا يتأَثَّر بالظُّروفِ والعوامِلِ الخارجيَّة؟!.

تعالُوا أَوَّلاً نضربً مثلاً للتَّمكين المُستقر في نبيِّ الله يوسُف (ع) فعندما كان سجيناً مُستضعفاً خاطبهُ السُّجناء بقولهِم {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

فكانَ مُحسِنٌ وهو في السِّجن!.

وعندما مكَّنهُ الله تعالى من السُّلطة وبسط يدهُ في مِصر نعتهُ النَّاس بقولهِم {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

وكانَ مُحسِنٌ وهو في السُّلطة.

وهذا هو معنى التَّمكينُ المُستقر، وعكسهُ التَّمكين غَير المُستقر والذي يصفهُ المثل المشهُور بقَولِ النَّاس [يتمسكنُ لِيتمكَّنُ] وهو حال المُنافقين ومُزدوجي الشَّخصية الذين تظهر عندهُم علامات الزُّهد والتَّقوى والإِحسان عندما يكونُوا خارج السُّلطة لا يملكُون شيئاً منها ومن نفوذِها وامتيازاتِها، ولكنَّهم يتحوَّلُونَ إِلى ضِباعٍ مُفترسةٍ تنهشُ بالرَّعيَّة إِن تمكَّنوا من السُّلطة والنُّفوذ!.

كيفَ؟! ولماذا؟!.

هنالِكَ عدَّة أَسباب منها على سبيلِ المِثال لا الحصر؛

- التَّربية والتَّعليم، خاصَّةً في فترةِ الطُّفولة، فإِذا تلقَّى الإِنسانُ تربيةً صالِحةً وسويَّةً ومُستقيمةً منذُ طفولتهِ فستتساوى عندهُ الأُمور في كلِّ الحالات، وليسَ في هذا الكلامِ أَيَّة مُبالغة أَو مثاليَّة، فبالإِضافةِ إِلى ما نقرأَهُ في سِيَر شخصيَّات عظيمة وعِملاقة على مرِّ التَّاريخ يقفُ على رأسِها أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الذي لم يُغيِّرهُ شيئاً مهما عظُم في أَعيُن النَّاس، فلقد {عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ} نقرأ ذلكَ في سيرة شخصيَّات عاصرناها أَو رُبما عاصرها الجيلُ الذي سبقنا، مثل المهاتما غاندي ونيلسون مانديلَّا وغيرهُم كثيرُون.

- الوعي الذَّاتي والتَّربية والرِّياضة الذاتيَّة.

يقولُ أَميرُ المُؤمنين (ع) {إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ، فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بَقَوْمٍ إِلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ}.

فللتَّربية والرِّياضة النفسيَّة أَثرٌ كبيرٌ في صياغةِ الشخصيَّة القادرة على الإِحتفاظ لنفسِها بالتَّمكينِ المُستقِر غَير المُتقلِّب.

وإِنَّ ما رأَيناهُ ونراهُ يوميّاً من إِنقلابِ القِيَم والمفاهيم عندَ الكثيرِ من [الزَّعامات المُعارِضة والمُجاهِدة] بمجرَّد وصولهِم للسُّلطة وحصولهِم على النُّفوذ دليلٌ واضحٌ على الخللِ في التَّربيةِ والتَّعليمِ وفي فشلهِم في تربيةِ الذَّات التي تؤَهِّلهم للتمسُّك بمواقعهِم القيميَّة من دونِ انقلاب.

وإِذا كُنَّا نقرأ في القرآن الكريم هذا المعنى، معنى الإِنقلاب على الذَّات والقِيم والثَّوابت والمفاهيم الإِستراتيجيَّة، في قولهِ تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فلقد عشنا بحمدِ الله ورأَينا مثل هذهِ النَّماذج الكثيرة في واقعِنا المُزري وللأَسفِ الشَّديد.

وفي الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أَدق وصف لهذهِ النَّماذج التي تعيش التَّناقض والإِزدواجيَّة والنِّفاق وكأَنَّها تتربَّص بالقِيم التي تتمثَّلها كرهاً، فإِذا صادفت الظَّرف المُناسب إِنقلبت عليها.

وصدقَ الإِمامُ الحُسين السِّبط (ع) الذي قال {النَّاسُ عبيدُ الدُّنيا والدِّينُ لَعِقٌ على السِنَتِهم يَحوطُونهُ ما درَّت معائِشهُم، فإِذا مُحِّصُوا بالبلاءِ قلَّ الدَّيَّانُونَ}.

(٨)

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.

إِذا أَردنا أَن نُمكِّن المُجتمع فيلزَم أَن يتمكَّن الفرد، والعكسُ هوَ الصَّحيح، فالتَّمكينُ يتحقَّق بالتَّكافُل والتَّكافُؤ، وأَنَّ مَن يتصوَّر أَنَّ بالإِمكانِ خلقِ مُجتمعٍ مُتمكِّن مِن دونِ أَن يخلقَ فرداً مُتمكِّناً فهو على وهمٍ كبيرٍ.

نجاحُ المُجتمعِ يتحقَّقُ بنجاحاتِ أَفرادهِ.

والتَّمكينُ بهذا الصَّدد على مُستويَينِ؛ تمكينٌ طبيعيٌّ يشملُ الجميع من دونِ استثناءٍ، وآخرَ تمكينٌ يصطادُ فُرصَهُ المرءُ والمُجتمع كُلَّا حسب طاقاتهِ وقُدُراتهِ واستعداداتهِ.

والتَّمكينُ الذي يعني تهيئةِ الظُّروف والأَدوات والشُّروط للنَّجاح، عكسهُ التربُّص {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا ۖ} الذي يعني إِستغلال كلَّ فُرصَةٍ لسلبِ شروطِ النَّجاح أَو تضييعِ فُرَصهِ على مَن يستحقَّ ذلك لسببٍ من الأَسباب.

أَمَّا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فلقد أَوصى ولدهُ الحسن السِّبط المُجتبى (ع) عكسَ ذلكَ بقَولهِ {يا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا} وهو بمعنى قِمَّة التَّمكين المُتبادَل بينَ أَفرادِ المُجتمعِ الواحد، لينجحَ كُلَّهُ.

فالمُجتمع النَّاجح هو الذي يتَّصف بثقافةِ التَّمكين، فترى كلَّ مُؤَسَّساتهِ التربويَّة والتعليميَّة وغيرِها وكذلكَ كلَّ قياداتهِ الإِجتماعيَّة والدينيَّة وغيرِها تبذل قُصارى جهودها ليُمكِّن المُجتمع بعضهُ البعض الآخر، بعيداً كلَّ البُعدِ عن أَيِّ نوعٍ من أَنواع التربُّص والتَّخبيثِ والإِحتكارِ التي تُضيِّع فُرص التَّمكينِ للنَّجاحِ.

ومِن أَسوء صفاتِ المُجتمع عندما يظنُّ البعض أَنَّهُ لا يُمكنُ أَن يتمكَّنَ زيدٌ إِلَّا إِذا فشلَ عمرُو، وأَنَّ الجماعة [أ] لا يمكنُ أَن تتمكَّن إِلَّا إِذا فشلت الجماعة [ب] وذلكَ تأسيساً على الفهم الضيِّق لمفهوم التَّنمية والتطوُّر وفُرصهُما في الحياةِ! فعادةً ما تكونُ النَّتيجة فشل الجميع وعدم قُدرة أَيٍّ منهُم على التمكُّن من النَّجاح، عندما يُضيِّقونَ على أَنفسهِم ويتنازعُونَ في المساحاتِ الضيِّقةِ!.

وفي هذهِ الحالةِ تكُون الأَكثريَّة [غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ] أَو كالجرادِ المُنتَشِر!.

لذلك نُلاحظ أَنَّ الدُّول المُتحضِّرة تنتشر فيها مشاريع التَّمكين لكُلِّ فئاتهِ بِدءاً من الطُّفولةِ وليس انتهاءً بالعُلماءِ والباحثينَ مرُوراً بالمرأَةِ والشَّبابِ.

كما أَنَّها تُنفِقُ الكثير من رأسِ المالِ والميزانيَّةِ القَوميَّةِ للبلادِ لتعميقِ مشاريعِ التَّمكينِ كمّاً ونوعاً.

أَمَّا في الدُّوَل المُتخلِّفة والمُستهلِكة فلا تجد فيها معنىً لمشاريعِ التَّمكينِ وإِذا رأَيتَ أَحداً يسعى للتَّمكينِ بمُفردهِ وبالإِعتمادِ على كفاءاتهِ وإِمكانيَّاتهِ الذَّاتيَّة، فستجدهُ محطَّ سُخرِيةٍ من الآخرين أَو حتَّى هدفٍ لحروبهِم النفسيَّة ودعاياتهِم المُدمِّرة وحملاتهِم التَّسقيطيَّة.

وهذا هو الفرقُ بَين المُجتمع النَّاجح والآخر الفاشِل، فبينما تجدُ كُلَّ فُرص التَّمكين مُتاحة في الأَوَّل ومِن دونِ تمييزٍ، تلحظ في الثَّاني غَياب مثلَ هذهِ الفُرص جُملةً وتفصيلاً، وإِذا صادف أَن وجدتها فستنحصرُ فيمن لا يستحقَّها ولِمن لا يقدر على توظيفِها للنَّجاح، ولذلكَ تضيعُ الفُرص والجهُود.

nahaidar@hotmail.com

اضف تعليق