كنز من كنوز الزمن، ذلك هو شهر رمضان، بالنسبة للمسلمين، فالزمن بالنسبة للأقوام لأخرى قد يكون سواسية، لا اختلاف فيه ولا تناقض، الأيام تشبه بعضها، والشهور مجرد أسماء مختلفة، فساعاتها، نهاراتها، لياليها، متشابهة في كل شيء، إلا هذا الشهر، رمضان الذي يختلف عن سواه في كل شيء، زمن بالغ السطوع، ثري الإيمان، مزدهر التقوى، ينبوع للقيم الثرية، يمنح الناس فضائل لا تعدّ ولا تحصى، ونعني بهم المسلمين، فهو شهر القيم وليس شهر الاحتفال بتنوع الطعام وفخامته، كونه ليس زمنا مناسبا للشراهة ولا يذهب الى تدليل النفس بما لا تستحق.
غير أننا في برامجنا وأعمالنا الدرامية، في شاشات التلفاز والفضائيات، وحتى في صفحات الميديا على اختلافها، وربما في حكاياتنا اليومية، فإننا للأسف نبجّل الطعام أكثر من سواه، ونتبارى بعروض مآدب الغذاء، وأنواع الأكلات ونتسابق في عرضها بصور مغرية تثير الشهية وتبين من هو الطباخ الأفضل، وأي طعام أكثر شهية وتنوعا وتميزا من سواه، وما هي اللحوم وأنواعها وأطباق الحلوى، وبعضهم يتفنن في طرائق عرض مأدبة الطعام، وكأنه يبتغي الدخول في قائمة غينتس على حساب الآخرين.
هذا الاهتمام المغالى به، يقابله إهمال غريب للقيم التي تسمو بشخصية الإنسان، وتقربه من سلوك الحكماء، فشهر رمضان شهر القيم والتعاون والشعور بالآخر، ولن يختلف الناس على هذا التوصيف، ذلك أن التقوى والزهد والتقارب والفضيلة والإيمان كل هذه القيم الساطعة تعد من تباشير هذا الشهر المبارك، حيث يتحول الإنسان الى كتلة من نور ليس بالطعام والمأدبة التي تضم أفخر الأكلات، وإنما بالسمو الروحي والاحتفال العميق بالقيم وحضورها وتأثيرها في حركة البشر.
وفي متابعة لصفحات الشبكات الاجتماعية، التويتر والفيس بوك والتلغرام وغيرها، سوف نلاحظ اهتمام الأكثرية بكل ما يتعلق بالطعام، وفي التلفاز والفضائيات والشاشة الصغيرة، يمكن متابعة المسلسلات والأفلام وحتى الإعلانات لنكتشف موجة هائلة من التركيز على العصائر واللحوم والأطعمة المثيرة للشهية، وكأن هذا الشهر خلقه الله لكي تتمتع به البطون وليس العقول أو النفوس، حتى أن الكثير من الناس أعلنوا جهارا نهارا بأنهم يمقتون هذا التبجيل لأصناف الطعام، في مقابل إقصاء مستغرَب لأهمية القيم والفكر السديد!.
لماذا يا تُرى يهتم الناس بالطعام وأصنافه أكثر من العقل والحكمة والثراء الروحي، وإذا كان الإنسان البسيط بفكره ينساق الى هذا التفضيل المادي للطعام، بحكم تدني مستواه المعرفي والعقلي والحياتي بشكل عام، فماذا نقول للعقول التي تقود المجتمع وتوجّه أخلاقياته وسلوكه؟، ماذا نقول عندما نخاطب القائمين على وسائل الإعلام، ولماذا تركز إدارات الفضائيات على عروض وإعلانات الطعام، وتهمل أغذية الروح التي يؤمن ويؤكد الأكثرية أنهم معها وليس مع تفضيل الماديات.
أين يكمن العيب في تجاهل القيم، وما أسباب ذلك، ومن المسؤول عن هذا الاستخفاف الغريب، وكيف يمكن أن نفرط بفرصة ذهبية يقدمها لنا شهر رمضان لكي نرتقي بعقولنا وأنفسنا وثقافاتنا وقيمنا، فيحصل النقيض وننحدر صوب تبجيل مائدة الطعام بأصنافها المتنوعة، بحيث بلغ الأمر في بعضهم لا يخجلون عن عرض موائد باذخة، وهم يعلمون أن هنالك من الأيتام والمحتاجين ما يفوق أعدادهم قد يتضورون جوعا، وربما يفطرون بكسرة خبز، أو بمائدة بالغة الفقر خالية حتى من التمر الذي كان أئمتنا عليهم السلام يفضلون الإفطار به مع قطعة خبز من الشعير وقليل من اللبن إن وُجد.
لماذا نسيَ بعض الناس أصولهم، ولماذا هذا الاندفاع الغريب الى استعراض الموائد وتبجيل الطعام، مع نسيان غريب لتعميم القيم النبيلة في هذا الشهر الذي تنمو فيه كل حالات الفضيلة، الإجابات أيضا ستأتي محملة بالغرابة وعدم الإقناع، فثمة من يقول أن الحرمان هو الذي يدفع بالناس للتظاهر بالغنى والتبجح بمثل هذه الموائد، ولكن هناك تساؤل مرير.. لماذا يهمل الناس القيم، ولمَ لا يسعون لتطوير عقولهم، هل هناك تناقض بين الغذاء الباذخ وبين إهمال القيم؟.
الصراع بين المادة والروح لم يتوقف قط، إنه نوع من التناقض من أجل الديمومة، فحين تقصي المادة الروح بعيدا، تذهب الى مآرب ترفضها الروح، إنه تناقض في الرؤية، وفلسفة لا تلتقي مع بعضها في الحصيلة والأهداف وحتى الوسائل، غريب أمر الكتّاب والمؤلّفين، ونعني هنا كتاب البرامج والقصص السينمائية والأفلام والأعمال الدرامية، لماذا لم تعد تبهرنا هذه الأعمال بفحواها، لماذا لم نعثر فيها على موائد الروح الغنية، في حين أنها تعرض علينا موائد سطحية غريبة كثير منها يظهر التفوق المادي على الروحي.
ما يحدث غريب حقا، سطحية عجيبة، وانحدار بائس، وتركيز مخز على الهباء، كيف نفرّط بشهر رمضان بهذه الطريقة، أين الروح، وماذا عن الفكر، ومتى تتجلى القيم، إنه تراجع يثير الألم، عندما تراقب أو تنغمس فيما تعرضه وسائل التواصل ووسائل الإعلام والشاشة الصغيرة، لتجد بأسف كبير أنك محاصر بالسذاجة وتبسيط التعامل مع الحقائق ودحر القيم النبيلة وإقصائها، ونبذ الروح، والتبجح بالثراء المادي، وكأننا نتعمد إضاعة هذا الشهر وما يقدمه لنا من امتيازات هائلة نحو العلوّ والسموّ بـ (العقل/ والروح/ والقيم)، هذا الثلاثي الذي ما أن تعتني به حتى تصبح من أعظم الأفراد والشخصيات ومن أرقى الأمم طرّاً.
الأمم المتميزة لا تهدر الفرص، وشهر رمضان من أعظم الفرص التي يمكن أن تدعم الروح وتوازن بين أهمية المادة وسواها، لا شيء يمكنه التفوق على نقيضه إلا إذا كان لدينا الاستعداد لفقدان التوازن، فحين تضمحل الروح تتفوق المادة، ولكن النتائج ستكون بالغة التأثير في المنحى السالب، هذا بالضبط ما يدعونا الى النباهة الشديدة، فلا نقبل بتراجع الروحاني مقابل فخامة وضخامة للمادة وتفرعاتها تثير القلق، رمضان مناسبة عظيمة للتوازن الروحي المادي، وفرصة كبيرة لجعل القيم في حالة صحو وتأثير يتفاعل مع حاجتنا الى العمق في الرؤية والفكر، وهذا بالطبع لا يعني إهمالا للجانب المادي ومن ضمنه الاهتمام بالطعام والمادة شريطة أن يكون ذلك على حساب العقل والروح والقيم.
اضف تعليق