الناس دائمًا ما يُخطئون بشأن تقديرهم لأفضل سبيل لإنفاق نقودهم لتعزيز سعادتهم. في الواقع، يظنُّ أغلب الناس أن إنفاق المال على شيء لأنفسهم سيجعلهم أسعد ممَّا لو أنفقوه على شخص آخر. وللأسف يؤدي هذا الخطأ في الحدْس إلى عدم إنفاقنا نقودَنا على النحو الصحيح. إنفاق مبالغ صغيرة على الآخرين...
«أفضل وسيلة للعثور على نفسك هي أن تكرس نفْسك لخِدمة الآخرين» غاندي
العطاء هو أحد أفضل الطرق للعثور على السعادة. في حقيقة الأمر يزيد العطاء من سعادتنا ويُحسِّن حالتنا الصحية، بل ربما حتى يطيل أعمارنا. وربما الأهم أن أي نوع من العطاء مهم، بما يشمل إعطاء المال لمنظمات خيرية والتطوع في مجتمعك، بل وحتى التبرع بالدم.
تخيَّل أنك وجدت ورقة بقيمة ٢٠ دولارًا مجعَّدة في سيارتك ذات صباح فقررتَ أن تنفق هذه «النقود المكتشَفة» لتُضفيَ على يومك بعض البهجة الإضافية. ما هو السبيل الأفضل لتحقيق هذا الهدف؟ قد يتصوَّر أكثر الناس مكافأةَ أنفسهم بشيء يحبونه - تناول الغداء في مطعمهم المفضَّل، أو شراء كتاب كانوا يريدون قراءته، أو الحصول على عناية بأظافرهم.
لكن يتَّضح أنَّ ظنَّنا بشأن الطريقة الأمثل لإنفاق هذه النقود خاطئ تمامًا. لمعرفة كيف يؤدي إنفاق المال بطرقٍ مختلفة إلى السعادة، سأل باحثون بطريقة عشوائية أشخاصًا في الشارع إن كانوا مُستعدِّين للمشاركة في دراسة نفسية سريعة. طُلب من الذين وافقوا تقييم لدرجة شعورهم بالسعادة والإدلاء بأرقام هواتفهم. ثم تسلَّموا مظروفًا به خمسة دولارات أو ٢٠ دولارًا. وطُلب منهم إنفاق النقود التي في المظروف بحلول الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم وأُعطُوا كذلك توجيهات محدَّدة بشأن سبيل إنفاق هذه النقود. فطُلب من مجموعة إنفاق المال على أنفسهم، بأن يُسدِّدوا فاتورة، أو يدفعوا مصروفات، أو يشتروا هدية لأنفسهم مثلًا. وطُلب من مجموعة أخرى من الأشخاص أن يُنفقوا النقود على شخص آخر، في صورة هدية أو تبرُّع خيري على سبيل المثال. ثم اتصل الباحثون بالمشاركين ذلك المساء، بعد أن أنفقوا النقود، وسُئلوا أن يُقيِّموا مقدار شعورهم بالسعادة.
ليس مُستغربًا أنه لم يكن ثمَّة اختلاف في السعادة بين مَن حصلوا على خمسة دولارات في مقابل مَن حصلوا على ٢٠ دولارًا. إلا أن الذين أنفقوا النقود على شخص آخر أعربوا عن مستوياتٍ أعلى من السعادة عن الذين أنفقوا المالَ على أنفسهم، رغم أنه لم يكن ثمَّة فرقٌ في مستوى السعادة بين الأشخاص في المجموعتين في بداية اليوم. إن الطريقةَ التي ننفق بها النقود هي التي تؤثِّر على ما نشعر به، وإنفاق مبلَغ صغير مثل خمسة دولارات على شخصٍ آخر -حتى إن كان شخصًا لا نعرفه- يزيد من مقدار سعادتنا.
في دراسة أخرى حول ما للعطاء من أثرٍ طيب في النفس بما يتجاوز حتى الاستئثار بالخير لأنفسنا، كشفت النتائج عن استنتاجات مشابهة. فقد أتاح الباحثون في هذه الدراسة للمشاركين خيار شراء حقيبة هدايا ترويجية بالنقود التي كسبوها نظير مساعدتهم في دراستهم. قيل لنصف المشاركين إن مِن حقِّهم الاحتفاظ بالحقيبة، في حين قيل للنصف الآخر إنَّ الحقيبة ستذهب تبرُّعًا لأحد الأطفال المرضى في مستشفًى محلي. وقد أعرب الناس الذين قيل لهم إن حقيبتهم ستئول إلى طفل مريض عن مستوياتٍ أعلى من السعادة عن أولئك الذين سُمح لهم بالاحتفاظ بحقيبتهم.
الشيء المثير للاهتمام بشدة في هذا البحث أن الناس دائمًا ما يُخطئون بشأن تقديرهم لأفضل سبيل لإنفاق نقودهم لتعزيز سعادتهم. في الواقع، يظنُّ أغلب الناس أن إنفاق المال على شيء لأنفسهم سيجعلهم أسعد ممَّا لو أنفقوه على شخص آخر. وللأسف يؤدي هذا الخطأ في الحدْس إلى عدم إنفاقنا نقودَنا على النحو الصحيح.
فائدة البذل للآخرين
تُثبت الأبحاث التي جاء شرحها حتى الآن كيف أن إنفاق مبالغ صغيرة على الآخرين يزيد من سعادتنا. ورغم أن هذه النتائج قد لا تنسجم مع حدْسنا بشأن الطريقة لبلوغ أكبر درجات السعادة، فهي ربما تنطبِق فقط حين نتحدَّث عن مبالغ صغيرة نسبيًّا.
لاستقصاء العلاقة بين المبالغ المالية الأكبر والسعادة، سأل باحثون بعض الأمريكيِّين في أنحاء البلاد كيف يُنفقون دخلهم السنوي عمومًا، وطلبوا منهم تحديد المستوى العام لسعادتهم. شملت المصروفات الشهرية الرئيسية التي أفاد بها الناس فواتير ونفقات (رهن/إيجار عقاري، سيارة، كهرباء)، وهدايا لأنفسهم (ملابس وحُلي وأجهزة إلكترونية)، وهدايا لآخرين، وتبرُّعات لجمعيات خيرية. وضم الباحثون أول فئتين -كمقياس «للإنفاق على النفس» - وثاني فئتين - كمقياس «للإنفاق على الآخرين». ثم تتبَّعوا الصلة بين السعادة وكل نوع من نوعي الإنفاق.
كانت النتائج التي توصَّلوا إليها واضحة جدًّا: لم يكن ثمة ارتباط بين السعادة والإنفاق الشخصي، مما يدلُّ على أن الأشياء التي يشتريها الناس لأنفسهم لا تأتي بالسعادة. على النقيض، كلما أنفق الناس على أشخاص آخرين -سواء كانوا يعرفونهم ويشترون لهم هدايا أو لا يعرفونهم لكن يتبرعون لهم عن طريق جمعيات خيرية- زادت سعادتهم. ظل هذا الارتباط بين العطاء والسعادة قائمًا حتى حين وضع الباحثون في الحسبان الدخل السنوي.
لكن من المشكلات التي تعتري هذه الدراسة أن الباحثين لم يستطيعوا أن يُحدِّدوا ما إن كان الكرم انعكاسًا لسعادة الناس أو سببًا لها؛ بعبارة أخرى، ربما أن الأشخاص السعداء أكثر عطاءً للآخرين وليس العطاء هو ما يُؤدي إلى السعادة. للإجابة عن هذا السؤال، أجرى هؤلاء الباحثون لاحقًا دراسة أخرى ليتحرَّوا فيها كيف ارتبط نوعٌ مُعيَّن من العطاء بالسعادة.
هذا البحث، الذي تحرَّى عن كيفية إنفاق الناس لعلاوة (قيمتها ٥٠٠٠ دولار تقريبًا) حصلوا عليها من شركتهم، كشف عن نتائج مطابِقة. فالأشخاص الذين أنفقوها على آخرين شعروا بسعادة أكبر من أولئك الذين أنفقوها على أنفسهم. وقد ظلت هذه النتيجة قائمة حتى حين وضع الباحثون في الحسبان إجمالي الدخل وكذلك حجم العلاوة. بإيجاز، الموظَّفون الذين خصَّصوا الجزء الأكبر من علاوتهم للإنفاق على الغير شعروا بسعادة أكبر بعد تلقِّيهم العلاوة، وكان الأسلوب الذي أنفقوا به تلك العلاوة باعثًا أهم على شعورهم بالسعادة من حجم العلاوة نفسها.
لا تزال الأدلة على العلاقة بين العطاء والسعادة تتجلَّى في دراسة بعد أخرى. فعلى سبيل المثال، اكتشف استقصاءٌ على مستوى العالَم أجْرته مؤسسة جالوب أن الأشخاص الذين تبرَّعوا لأهداف خيرية خلال الشهر السابق في ١٢٠ دولة من أصل ١٣٦ دولة أعربوا عن درجةٍ أعلى من الرضا عن الحياة. من ثَم فإنه حتى في الدول الفقيرة، تجد إنفاق المال على الآخرين باعثًا أقوى على السعادة من إنفاق المال على أنفسنا.
من البديهي أن تتطلَّب تلبية حاجاتنا الأساسية توجيهَ قدْر معقول من المال للإنفاق الشخصي. فالإنفاق الشخصي على كل حال يشمل العديد من الضروريات مثل مصروفات الرهن العقاري والغذاء والوقود. إلا أنَّ الإقدام على تغييرات ولو صغيرة لتوجيه المزيد من المال للإنفاق على الآخرين من الممكن أن يعود علينا بالمزيد من السعادة.
بذْلُك من وقتك أيضًا يُشعرك بالسعادة
رغم أنَّ العطاء بوجهٍ عام يُضاعف السعادة، فإننا نشعر بنشوة خاصة من العطاء بالطريقة التي تُتيح لنا تكوين روابط مع الآخرين. فعلى سبيل المثال، وزَّع باحثون في إحدى الدراسات قسائم مُشتريات لمقهى ستاربكس بقيمة ١٠ دولارات على الناس عشوائيًّا في الشارع. إلا أنَّ الذين حالفهم الحظُّ بالحصول عليها تلقَّوا توجيهات محدَّدة بخصوص السبيل لاستخدام هذه القسائم:
طُلب من بعض الأشخاص استخدام القسيمة باصطحاب شخص آخر لتناول القهوة.
طُلب من بعض الأشخاص التنازل عن القسيمة لشخصٍ آخر، وعدم اصطحاب ذلك الشخص إلى ستاربكس.
طُلب من بعض الأشخاص إنفاق القسيمة كاملة على أنفسهم بالذَّهاب إلى ستاربكس بمُفردهم.
طُلب من بعض الأشخاص الذهاب إلى ستاربكس مع صديق، لكن مع إنفاق القسيمة على أنفسهم فقط.
أتاح تصميم هذه الدراسة للباحثين التحقُّق من الفوائد النِّسبية لقضاء وقت مع صديق، وإعطاء هدية لشخص، وإعطاء الشخص هدية لنفسه.
وجد الباحثون أن الأشخاص الذين استخدموا القسيمة ليُفيدوا بها شخصًا آخر وقضوا الوقت مع ذلك الشخص في ستاربكس هم الذين أظهروا أعلى مستوًى من السعادة. إذن، العطاء مفيد، لكن العطاء الذي يشمل التفاعل مع الآخرين أبلغ فائدة.
وهذه النتيجة تُفسِّر لماذا التطوع، الذي يصل بين الناس ومُتطوِّعين آخرين وكذلك أصحاب الحاجة في المجتمع، يُعزِّز مشاعر السعادة. فمُقارنةً بالأشخاص الذين لا يتطوَّعُون مطلقًا، فإن الأشخاص الذين يتطوَّعون شهريًّا تزداد أرجحية شعورهم بأنهم «سعداء جدًّا» بنسبة ٧ في المائة، والأشخاص الذين يتطوَّعون تزداد أرجحية شعورهم بأنهم «سعداء جدًّا» بنسبة ١٦ في المائة. ثمَّة مقولة ملهمة غالبًا ما تُنسب للمهاتما غاندي تقول: «أفضل وسيلة للعثور على نفسك هي أن تكرس نفْسك لخِدمة الآخرين.»
الاستقصاءات القومية عن العلاقة بين العُصابية -مستوى الاكتئاب والقلق والتوتُّر لدى المشاركين- والتطوع تُعطينا دليلًا أقوى على أن العطاء يجعلنا سعداء. فالولايات التي بها أعلى معدَّلات التطوع - يوتا وساوث داكوتا ومينيسوتا - كلها من أقلِّ عشْر ولايات إصابة بالعُصابية. في المقابل، نرى أن الولايات التي يعاني سكانها معدَّلاتٍ أعلى من العُصابية لديها معدلات أدنى من التطوع. ورغم أن الولايات التي سكانها أكثر ثراءً تُظهر معدلات أعلى من التطوع، ربما لأنَّ المزيد من الدخل يسمح بمزيد من وقت الفراغ، هذه النتائج تضع في الحسبان مستويات الدخل للولاية بوجهٍ عام. لذلك فإنه حتى حين صنَّف الباحثون البيانات وفقًا للحالة المادية لكلِّ ولاية، أفادت الولايات الأعلى في معدلات التطوع بمعدلات أعلى من الرفاه العام أيضًا.
اضف تعليق