العزلة هي أن تختار أن تكون أنت، أن تحرس مولد ذاتك، هي الحالة الأصلية أنطولوجياً للذات، وإن تقنا من حين لآخر لأن نصبح مرئيين. في العزلة ندرك ما الذي تعنيه الأنا، وكيف تكون حاضرة. نشعر بها في هذه التجربة تطفو بعد أن تخبو الضوضاء التي كانت تشغل حواسنا وتشتتنا...
يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860) في كتابه (فن العيش الحكيم – تأملات في الحياة والناس) "إن الإنسان يجد في العزلة عزاءه الأخير بعد معاشرته الطويلة للناس، عامة الناس. فبقدر ما يمتلك الإنسان أشياء كثيرة بداخله، بقدر ما يشتد استغناؤه عن الناس وعن العالم الخارجي. على هذا النحو، يكون المتفوق فكرياً، حتماً إنساناً لا اجتماعياً. فلو كان الكم مساوياً للكيف في القيمة، لجاز تجشُّم عناء العيش مع الناس ومخالطتهم، لكن هيهات! فمئة مخبول لا تعادل ولن تعادل أبدا صاحب عقل راجح واحد.
فذو العقل الصغير، ما أن يفرغ من إشباع حاجاته الأساسية، وينعم بقليل من الراحة حتى يندفع بحثاً عن تمضية الوقت كيفما اتفق ومخالطة الناس دون تمييز، فهو ينسجم مع الناس ولا يفر إلا من نفسه. فالغبي في عزلته يئن تحت وطأة بؤسه الشخصي، بينما الألمعي الموهوب يؤثث عالمه الخاص والصغير حتى ولو كان في أكثر الأماكن المقفرة لتدب الحيوية والنشاط فيها. ففي العزلة، يختزل كل واحد منا في ما عنده وفي ما يجده بداخله، أي في موارده الذاتية ولا شيء غيرها. وقد صدق "لوكيوس أنايوس سينيكا" حين قال: "الغباء يضجر حتى من نفس" وعبّر اليسوع عن المعنى نفسه بقوله: "حياة الأحمق أسوأ من الموت".
ويذهب أيضاً الفيلسوف وعالم النفس الألماني – النقدي إريك فروم (1900-1980) في كتابه (المجتمع السوي) إلى أن "الشخص السوي يعاني من العزلة في المجتمع غير السوي، وقد يؤدي عجزه عن التواصل إلى إمراضه نفسياً، فالمجتمع المريض لا يتسامح مع الأصحاء". ويحذر فروم المجتمعات بعامة بأنها المسؤولة عن اغتراب أفرادها، وقد يكون الشخص سليما معافى، إلا أن المجتمع نفسه إذا لم يكن صحياً بالقدر الكافي فإنه يصبح مجتمعاً مريضاً والطبيعي عندئذ أن يصبح أفراده مرضى، ولذلك ينصح بعلاج المجتمع أكثر من اهتمامه بعلاج الأفراد إذ المجتمع الصحي يفرز أفراد أصحاء.
في حقيقة الأمر، تطرح علينا فكرة هذا المقال العديد من التساؤلات... من أنا؟ ماذا أفعل في هذه الدنيا؟ ماذا أعرف عن نفسي؟ كيف أريد أسلوب حياتي، أهو بعيد عن الناس، أم وسط زحمة هذا العالم، أم في عِداد حاملي الرسالات؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير –التي تتفاوت من شخص لآخر– تحمل لنا العديد من الإجابات المريحة التي تضع النقاط على الحروف في نفوسنا.
يشير مفهوم الذات إلى ما يملكه الشخص من مشاعر وأفكار وإمكانات وقدرات، وتطويرها يعني استغلال ذلك كله الاستغلال الأمثل في تحقيق الأهداف والآمال، وهذه القدرات فيها ما هو موجود بداخلنا بالفعل، ومنها ما نحتاج أن تكتسبه بالممارسة والمران لفنون الكفاءة والفاعلية. فمرحلة اكتشاف الذات هي من أهم المراحل في حياة الإنسان لأنها ترسم مسار رحلته في الحياة الاجتماعية. هذه المرحلة تتطلب من الإنسان أن يوقظ نفسه أن يتوقف لفترة قد تطول أو تقصر عن مجاراة هذا العالم المضطرب. لحظات تطلب منه طرح أسئلة معينة على النفس وهذا لا يستقيم له إلا من خلال العزلة عن الناس لتقييم المرحلة الراهنة التي يحيا بها. لكن قبل أن نحوض في أهمية العزلة في اكتشاف ذواتنا سنحاول التوقف قليلاً عند مفهوم الذات الإنسانية بالتعريف والشرح.
بمعنى أدق، تعبّر ذات الفرد أو شخصيته عن مجموعة من الآليات التي تنظم حياته وعلاقاتهم بالآخر وبالطبيعة وبالله سبحانه وتعالى. وبناء الذات عند كل فرد يقوم على السمات الجوهرية الخاصة بثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه. وعلى هذا فالثقافة هي نظام القيم الأساسية الجوهرية في المجتمع. والذات أو الشخصية أو الأنا أو الهوية، هي صورة مصغرة عن هذه الثقافة أو هي مستودع لها. وثقافة الفرد، التي تشكل ذاته وشخصيته هي جزء من الثقافة الاجتماعية، وهي أيضاً ما نسميه بالهوية.
تركز الدراسات الاجتماعية المعاصرة على قدرة المجتمع على نقل ثقافته من جيل إلى آخر، وتعد ذلك مصدر صحة المجتمع، وضمان سلامة استمراره. وكل مجتمع يسعى دائماً إلى تشكيل بنية ثقافية أصيلة، يحرص على ألا يخرج عليها أحد من أفراده ضماناً للوحدة الاجتماعية الداخلية، فوظيفة الثقافة الاجتماعية إنما هي تحقيق التوازن والتناغم بين أفراد المجتمع، ولا يكون ذلك إلا عندما تتمكن، هي ذاتها، من تحقيق التناغم والتوازن بين عناصرها لتنتظم داخلياً في إطار مجموعة متوازنة من العناصر الثقافية التي يحيا فيها الفرد من جهة، وتشكل مرجعيته ومعياره في التعامل مع الأشياء والحكم عليها من جهة أخرى. وأي خلل في النظام الثقافي يؤدي بالضرورة إلى قلق في حياة الفرد، واضطراب في أحكامه، ينتج عنه فوضى في العلاقات وشلل في القدرات وضمور في الإبداع.
ولا شك، في أن تعدد الكليات في تفسير الذات، وهي جزء من كل، يؤدي إلى عدم انسجام بين الفرد والفرد في المجتمع خاصة، وبين الأفراد والمجتمع عامة، وهو ما ينتج عنه خلل في الأحكام وقلقلة في العلاقات وضبابية في الوعي وضمور في الإبداع.
إن عدم التناغم الوجداني بين الأفراد ينجم عنه التحرك بعيداً عن الآخرين، وإنه يتجنب الصراع، فتصبح العزلة أسلوب لمعالجة المواقف المؤلمة، وهي محاولة يبذلها الفرد لإعادة اتزان النفس، وتحدث فجأة كاستجابة من جانب الفرد كحرمان مفاجئ يطرأ في حياته من أفراد آخرين يعتبرهم ذوي أهمية لديه. مما يدفعنا إلى الحديث عن العزلة الإيجابية كخيار أو ربما ملاذ يقينا شر الخيبات، ويعيننا على ترتيب ذواتنا، وترميم ما أصبح آيلاً للسقوط من الأحلام، أو قد نحكي عنها على أنها العلاج الأجدى لتجديد سمات أرواحنا الحقيقية، مثل قدرتنا على الحب والعطاء والخير. وتُعرف العزلة بأنها قرار يتخذه الفرد بإرادته بعض النظر عن أسبابها. ونقصد بكلمة العزلة في هذا السياق العزلة الإيجابية وهي العزلة الطبيعية التي يحتاجها كل إنسان بين الفترة والأخرى، فهي بمثابة الخلوة مع النفس لفترة من الزمن يعيد من خلالها الفرد حساباته ويرتب أولوياته ويتأمل ويفكر في الأحداث الجارية حوله لمعرفة ما له وما عليه، وبالأخص قبل اتخاذ القرارات المصيرية في الحياة الاجتماعية والمهنية.
ومعنى ذلك، أن العزلة بشكل عام تختلف عن الوحدة فهي غالباً ما تكون مفروضة عليه كأن يكون الإنسان وحيداً بسبب بُعد الآخرين عنه، مسافراً مثلاً في بلد غريب، أو أنه يعيش مع أهله وأصدقائه لكنهم لا يمنحونه الاهتمام والعاطفة.
نقصد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة إليك بها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار على الذي تدعوه الحاجة إليه. كان جديراً ألا يحمد غبه، وأن تستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن ماد وخاطر. ولينظر المرء لدينه ويحسن الارتياد لنفسه نسأل الله السلامة من شر هذا الزمان وأهله.
لذا نجد أن العزلة عند الفتنة سنة الأنبياء، وعصمة الأولياء، وسيرة الحكماء الألباء، فلا أعلم لمن عابها عذراً، لا سيما في هذا الزمان القليل خيره، البكيء دره (قليلة اللبن)، بالله نستعيذ من شره وريبه. وقد قال الراغب الأصبهاني في تعريفه للعزلة "العزلة توفر العرض، وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة. وقال ما احتنك أحد قط إلا أحب الخلوة". ويذهب محمود درويش في نصه "لو كنتُ غيري" (ديوان أثر الفراشة) إلى أن العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه. مؤكداً أن قدرتك على أن تكون وحيداً " هو تربية ذاتية. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي... أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة... العزلة هي اختيار المترف بالممكنات... هي اختيار الحر. فكيف تجف وتضيق بك نفسك".
وفي ذات السياق يعبر الشاعر والأديب الكبير جبران خليل جبران (1883-1931) في كتابه "البدائع والطرائف" عن فلسفته فيما يخص (الوحدة والانفراد) بقوله إن " الحياة جزيرة في بحر من الوحدة والانفراد. الحياة جزيرة صخورها الأماني، وأشجارها الأحلام، وأزهارها الوحشة، وينابيعها التعطش، وهي في وسط بحر من الوحدة والانفراد. حياتك، يا أخي، جزيرة منفصلة عن جميع الجزور والأقاليم، ومهما سَيَّريت من المراكب والزوارق إلى الشواطئ الأخرى، ومهما بلغ شواطئك من الأساطيل والعمارات فأنت أنت الجزيرة المنفردة بآلامها، المستوحدة بأفراحها، البعيدة بحنينها، المجهولة بأسرارها وخفاياها".
إلا أن الإنسان عندما يفرح يبحث عمن يشاركه فرحته، ينجح فيتلهف لوجود الآخر للاعتراف بنجاحاته، فلكي يُسمى النجاح نجاحاً لابد من الاعتراف به. تنمو داخل رأسه فكرة ولا تثمر إلا حين يناقشها مع أحد آخر. يتأمل صوره، فيفتش عن صورة تجمعه بشخص ما. الآخر هنا: مرآة. لكن: ماذا عن مرايانا الداخلية؟
يقول العلامة ابن خلدون 1332-1406 في مقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر": إن الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه، والطبع الاجتماعي ليس اختياراً، بل جزءاً من هويتنا، وتطور الحس الاجتماعي كان من أهم عوامل تطور الحياة البدائية. يسعى الكثير من مدربي تطوير الذات إلى دفع الناس نحو تكوين شخصيات انبساطية. لكن الطبائع البشرية مختلفة بشكل جوهري، فدرجة اجتماعية البشر مثلاً تختلف من فرد لآخر. وأي نزعة تحاول وضع المختلفين في قالب واحد، هي نزعة سلطوية شمولية متطفلة على منطق الفردانية الإنسانية الخاص، لماذا يجب أن يكون الإنسان محاطاً بالآخرين طوال الوقت؟ وأن يكونوا شركاء معه في ذاته ومشاعره وأفكاره التي تخصّه وتؤثر على حياته هو في النهاية؟ إن من مظاهر الصحة النفسية، قدرة الإنسان على تحقيق التوافق بين تفاعله مع الآخرين والحفاظ على حيِّزه الخاص ومواجهة ذاته وتحمل مسؤوليتها بعقلانية.
اقترن مفهوم العزلة في الفهم الجمعي بالاكتئاب، بالمرض، بالضعف، وبالنبذ. ما أن تلوذ بعزلتك حتى يهرع الجميع لانتشالك منها باعتبارها انسحاباً أو انهزاماً أو نكوصاً ارتكاسياً نتيجة أزمة، لا موقفاً طبيعياً من العالم، ماذا لو انصهرنا في الآخرين؟ وأصبح اندماجنا معهم وسيلة للهروب من مواجهة ذواتنا؟ ماذا لو أصبحت سعادتنا متعلقة بمشاركتهم لها؟ ولا نتمكن من تحقيق الرضا عن أنفسنا إلا بوجودهم؟ ماذا لو أصبحت نظرتنا لأنفسنا هي نظرتهم لنا؟ وتصوراتنا عن الحياة هي تصوراتهم وحديثنا الداخلي هو حديثهم؟
الجواب إن العزلة هي أن تختار أن تكون أنت، أن تحرس مولد ذاتك، هي الحالة الأصلية أنطولوجياً للذات، وإن تقنا من حين لآخر لأن نصبح مرئيين. في العزلة ندرك ما الذي تعنيه الأنا، وكيف تكون حاضرة. نشعر بها في هذه التجربة تطفو بعد أن تخبو الضوضاء التي كانت تشغل حواسنا وتشتتنا.
وفي طريق التغيير الذي يمس أعماقنا السحيقة، تحضر العزلة كأهم المراحل، وشرطاً لولادة الذات الجديدة، فهي التي تتيح لحظات التأمل، التجربة الفردية الخالصة. نختلي بأنفسنا فنختبرها بمنأى عن ضغوط الآخرين ونعيد اكتشافها. بحرية العصامي نتدارك ما فاتنا، ونصحح مساراتنا الخاطئة، ونجنب ذواتنا سوء الاستخدام، كاستنزاف الطاقة واستهلاك العواطف واقتحام الحدود الشخصية.
وهل للإنسان أن يكون كاتباً إن لم يكن عالقاً مع ذاته الواعية التي لا تغيب ولا تتراجع؟ أليست العزلة للكُتَّاب قوت المخيلة، ومهبط الوحي، ومكمن المعرفة، والخلق والإبداع؟ هنا هي ليست اختياراً أو رفاهية، بل حالة اضطرارية تفرض نفسها. وفي هذا الصدد يقول الروائي النمساوي فرانز كافكا (1883-1924) من أبرز أدباء القرن العشرين ولاسيما في مجال الرواية النفسية: (من أجل الكتابة أحتاج إلى العزلة، ليس مثل زاهد، فهذا لا يكفي، وإنما مثل ميت... الكتابة نوم أعمق من الموت وكما لا يسحب المرء جثة من مرقدها لا يمكن أن يسحبني أحد من مكتبي بالليل). إن العزلة تضع الوجود تحت المجهر... وبمنطق كهذا: فإن عزلة الإنسان - الذي يولد وحيداً، ويموت وحيداً - هي الأصل.
ومعنى ذلك أننا نحتاج بين وقت وآخر لمثل هذه العزلة التي من خلالها نسمح للعقل بالهدوء والسكينة والتركيز، هذا الهدوء تحتاجه النفس في كل مرحلة وبعد كل عاصفة تمر بها. نحتاج العزلة الانتقائية الاختيارية بين وقت وآخر، لشحن النفس بالطاقة وتلمس المعرفة التي نحتاجها لنركز عليها، وللتأكد إن كنا على الطريق الصحيح.
إلا أن على الضفة الأخرى حقيقة لابد من الاعتراف بها.... بعيداً عن أهمية العلاقات الاجتماعية في حياتنا اليومية كداعم أساسي للوصول أو النجاح في كثير من الحالات. فإن دافع الانتماء وتقدير الذات –حسب هرم ماسلو- يعد من أهم الدوافع النفسية ذات الأثر في إنجاز الإنسان. فالإنسان الذي يسعى دائماً للشعور بالقبول والانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا يعني العمل بشكل أكبر، والسعي الحقيقي نحو النجاح، لتصير مرئياً اجتماعياً. كما أن التكوين النفسي والفيزيولوجي والاجتماعي، يخلق لدى الفرد هذا التلهف لوجود الآخر في حياته، الآخر الذي يحتاجه للاعتراف بنجاحاته، فحتى يُسمى النجاح نجاحاً لابد من الاعتراف به ومنحه جزاءه.
إذاً لا نجاح دون الآخر، دون اعتراف الآخر، وإن اقتصر الجزاء على هذا الاعتراف، فإنه في حالات كثيرة يكاد يكون كافياً. لذلك نجد أنفسنا في كثير من الأحيان بعد مضي بعض الوقت على اختيارنا للعزلة نبدأ نتألم، ونأسى لهذا الاختيار، حتى وإن حاولنا ستر هذه المشاعر تحت ألف غطاء، لكنها لا تلبث أن تنفضح بمجرد أن تعذل أحدهم على طول غيابه، أو على قلة اهتمامه وسؤاله. وهكذا، فإننا لا يمكننا أن نتوقف عن توقع قرع أحدهم لبابنا لا يمكننا أن نكف عن التوقع مهما تتالت الخيبات، ولا يمكننا أن نتوقف عن التوقع هذا الفعل الذي يبرهن لنا في كل مرة أننا بحاجة حقيقية للآخر حتى وإن كان "الآخر هو الجحيم" حسب فيلسوف الوجودية المعاصرة جان بول سارتر. وبما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده لذا فهو بحاجة ماسة لأشخاص حوله ليتشارك معهم في العديد من الأمور والجوانب المهمة في الحياة، لهذا علينا أن نسعى وبشكلٍ دائم للبحث عن علاقات اجتماعية مبنية على قواعد مهمة وأساسية لتكون ناجحة وإيجابية.
خلاصة القول، إن العزلة الاجتماعية الإيجابية لفترة من الزمن نحتاجها جميعاً، وهي تخصيص بعض الوقت لنعتزل الآخرين ونجلس مع أنفسنا، محاسبتها والاسترخاء والتركيز مع الذات وتنميتها، وإعادة النظر في حياتنا وأعمالنا وأهدافنا، وتكون هذه المساحة فرصة للمراجعة الذاتية الشاملة، لكن مع الانتباه الواعي لعدم الوقوع في فخ العزلة الاجتماعية، فمهما كان ما يحدث لنا في الحياة، يجب ألا نقرر يوماً العزلة عن الناس والبقاء وحدنا بشكل مطلق، لأننا نكون قد دخلنا في متاهة غير منتهية من المشاكل النفسية والاجتماعية. وفي الختام نقول إن العزلة بمعناها الواسع تصلح فقط للعلماء العقلاء، وأنها من أضر الأشياء للجهال، فمن أراد الاعتزال فعليه أن يتفقه بالدين والعلم والمعرفة، فقد قال إبراهيم النخعي: تفقه ثم اعتزل.
كما أن العزلة الحقيقية حالة من العيش بحاجة لأن تستثمر. فليس بالوسع الدخول فيها والخروج منها كما نريد. فالعزلة فن تحتاج لمران ذهني لصقلها واستقرارها في النفس. فعندما تتمرن على العزلة، فأنت تكرس ذاتك للاعتناء بروحك. ستيفان باتشيلور (1953-) من كتابه فن العزلة.
اضف تعليق