معظم الأشخاص يعتبرون المعرفةَ التي تقع على الجانب الخاص بهم من الحدود مُسلَّمًا بها؛ وهذا يمكن أن يُصعِّب من عملية التواصل مع الأفراد على الجانب الآخر من الحدود، إلا أن العمل الجماعي في جوهره يتمحور حول تجاوُزِ مثل هذه الحدود، أو مدِّ جسور عبرها. وللقيام بذلك...
إن الابتكار رياضة جماعية، شئتَ ذلك أم أبيتَ. قليلة هي الابتكارات القيِّمة التي تتحقَّق على يد فرد واحد، أو حتى على يد مجموعات من الأشخاص الذين يتشاركون نفس المعرفة والخبرة. ننظر في هذا الفصل فيما يتطلَّبه تشكيلُ فرق العمل، ونوضِّح السببَ في أن العمل الجماعي ينطوي على تحدٍّ أكبر مما يبدو لأول وهلة، ونستكشف الدور الجوهري الذي يضطلع به الأمانُ النفسي - بالإضافة إلى عواملِ تمكينٍ أخرى - في مساعدة الأفراد على العمل الجماعي معًا بفاعلية. ونظرًا لأن العمل الجماعي عبر التخصصات المختلفة ضروريٌّ للابتكار؛ فسنولي اهتمامًا خاصًّا لأنواع الحدود التي يواجهها الأفرادُ عند العمل الجماعي من أجل الابتكار، وكيف يمكن تجاوُزها بفعالية.
ما تنطوي عليه الحدود
فكِّرْ في الصفات التي قد تستخدمها لوصْفِ نفسك؛ بعض هذه الصفات تصف المجموعات التي يشترك أفرادُ كلٍّ منها في هوِيَّة واحدة، مثل النوع والمهنة والجنسية. بعض هذه المجموعات والحدود الخاصة بها أكثر وضوحًا من غيرها؛ النوع على سبيل المثال واضح، أما المهنة فهي أقل وضوحًا، إلا إذا كان الزيُّ يدلُّ عليها.
لكن الأشياء المستترة هي «الافتراضات المسلَّم بها» -أو العقليات- الخاصة بالأفراد في المجموعات المختلفة. لكي يكون العملُ الجماعي ناجحًا، يجب على الأفراد أن يكونوا مدركين أنهم سيعملون معًا، ولكلٍّ منهم وجهة نظره المختلفة، واعتقاده المُسلَّم به ﺑ «صحة» معتقداته وقِيَمه. ليس كافيًا أن يقولوا ببساطة شيئًا من قبيل: «دعونا نتَّحِد في فريق» وكل شيء سيسير على ما يرام. وبغضِّ النظر عن قدر النوايا الحسنة الذي ينطوي عليه الأمرُ ومدى أهمية الهدف، فإن هذه الحدود تقيِّد التعاوُنَ بطرق مستترة وقوية في نفس الوقت.
يساهم التعليم (المستوى والنوع) - إلى جانب عمليات التواصل الاجتماعي التي تحدث عندما نتفاعل مع آخرين في مجالنا - في المعتقدات غير الواعية بأن المعرفة التي تتشاركها مجموعةُ المرءِ مهمةٌ على نحوٍ استثنائي. إن الأمر يبدو كما لو أن جدارًا يفصل بين المهندسين وموظفي التسويق، والممرضات والأطباء، والمصممين في بكين والمصممين في بوسطن؛ فالمعرفة والمهارات التي نتعلمها في مجال خبرة بعينه تشكِّلان المنهج المرئي. أما المنهج المستتر، فيعلمنا أن ننسى كيف كان سيبدو الأمر ونحن لا نعرف ما نعرفه.
أهم شيء علينا أن نفهمه فيما يتعلق بالحدود إذن، هو أن معظم الأشخاص يعتبرون المعرفةَ التي تقع على الجانب الخاص بهم من الحدود مُسلَّمًا بها؛ وهذا يمكن أن يُصعِّب من عملية التواصل مع الأفراد على الجانب الآخر من الحدود، إلا أن العمل الجماعي في جوهره يتمحور حول تجاوُزِ مثل هذه الحدود، أو مدِّ جسور عبرها. وللقيام بذلك، يجب علينا أولًا أن نكون واعين تمامًا بهذه الحدود وما تفعله.
إن الافتراضات المسلَّم بها عسيرةٌ على الإدراك بطبيعتها؛ ومن ثَمَّ فإن أول خطوة في سبيل إدراكها هي أن تكون واعيًا بوجودها، ومن ثَمَّ يمكنك أن تكون متنبِّهًا لها. خُذْ كمثالٍ شركتَيْ طيران وحَّدَتَا جهودَهما للعمل على ابتكار طائرة جديدة. في أول اجتماعات التخطيط، اتفق الجميع على أهداف طموحة وجدول زمني مضغوط، وبالرغم من هذا الاتفاق، ظلت المحادثة تغوص في أوحال سوء الفهم وسوء التواصل. وأخيرًا، اكتُشِف أن كلتا المجموعتين قصدتَا شيئًا مختلفًا عند استخدامهما العبارة البسيطة: «لقد سُلِّمَت الطائرة.» فقد فهمت إحدى المؤسستين أن الطائرة قد سُلِّمَت فعليًّا إلى محطة تحكُّمٍ، وأمَّا الأخرى ففهمت أن العبارة نفسها تعني أن الطائرة قد سُلِّمَت إلى الموقع الفعلي، وأن المكونات قد اجتازت كلَّ الفحوص الفنية. وقد كان هذا الفارقُ الدلالي بالغَ الأهمية للمشروع؛ لأنه أثَّرَ على الكيفية التي كانت ستُجمَع بها البيانات وتُصنَّف، وليس هذا الفارق الدقيق بين مجموعتين سوى مثال واحد على نوعية سوء التفاهم الذي يمكن أن يتفاقم، مقارَنةً بما لو تجاوَزَ العملُ الجماعي الحدودَ بين المجموعتين.
أنواع الحدود
ثمة ثلاثة أنواع من الحدود مهمة بوجه خاصٍّ في سياق العمل الجماعي من أجل الابتكار؛ وهي: المسافة المادية (الموقع، والمنطقة الزمنية، وما إلى ذلك)، والمكانة (القيمة الاجتماعية المُدرَكة، والمستوى الوظيفي، والمهنة، وما إلى ذلك)، والمعرفة (الخبرة، والتعليم، وما إلى ذلك).
المسافة المادية:
في كثير من الشركات، تعوَّدت فِرَق العمل التي تعمل في أماكن منتشرة حول العالم - والتي تُدعَى الفِرَق الافتراضية - على دمج خبراتها. وهي افتراضية لأنها تعمل معًا باستخدام تقنيات الاتصالات؛ مثل: البريد الإلكتروني، أو الهاتف، أو سكايب. إن القدرةَ على الابتكار من مثل هذا العمل الجماعي عظيمةٌ، ومع ذلك، فإن التحديات أيضًا عظيمة؛ فمن دون التواصل المباشر، يمكن أن يكون تحديدُ ومواجهةُ الافتراضات المسلَّم بها شديدَيِ الصعوبة.
المكانة:
أكثر الاختلافات في المكانة شيوعًا في مكان العمل، تتمثَّل في المهنة ومستوى الهيكل الوظيفي للمؤسسات. تؤثِّر المكانة المهنية بوجه خاص في سلوكيات التعبير الصريح عن الآراء والمعتقدات؛ ففي مجال الرعاية الصحية - على سبيل المثال - يتمتَّع الأطباء بمنزلةٍ أعلى وسلطةٍ أكبر من الممرضات اللاتي يتمتعن بدورهن بمكانة أعلى من الفنيين، إلا أن الأفراد عبر هذه المهن دائمًا ما يكون عليهم تشكيلُ فِرَقٍ لرعاية المرضى؛ ومن ثَمَّ فإن المرضى يكونون عرضةً للخطر إذا لم يتعلَّم هؤلاء الأفراد كيف يتعاونون في العمل بحيث يتجاوزون حدودَ المكانة التي توجد بينهم. هذا ما أدركَتْه سوزان تومبسون في مؤسسة ترينيتي هيلث سيستمز حين افتتحت إحدى أولى مؤسسات الرعاية المسئولة في الولايات المتحدة. طلبت تومبسون من أطباء الرعاية الأولية والمتخصصين والممرضات والأطباء الآخَرين أن يشكِّلوا فريقًا يتجاوز حدودَ المكانة فيما بينهم؛ لتنسيق الرعاية من أجل تحسين نتائج علاج المرضى، وتقليص تكلفة الرعاية في الوقت ذاته. هناك شيء واحد فاجَأَها في هذا الشأن؛ إنه مدى السرعة التي حقَّقَ بها الابتكارُ النتائجَ المرجوَّةَ منه؛ «ففي ١١ شهرًا فقط، تقلَّصَ إجمالي عدد النزلاء بالمستشفى بنسبة ٢٥ بالمائة، وقلَّت نسبة إعادة إدخال المرضى المستشفى في غضون ٣٠ يومًا بنسبة ٤٣ بالمائة، وبات مرضى قسم الطوارئ المتكررون يتلقَّوْن رعايةً أكثر تناسُقًا، وتحسَّنَ مستوى رضا المرضى عن الخدمة المقدَّمة.»
المعرفة:
يتمحور العمل الجماعي من أجل الابتكار في أغلب الأحيان حول سدِّ الفجوة بين مجالات الخبرة. في فِرَق تطوير المنتجات والعمليات بوجهٍ خاص، يُعَدُّ جَمْعُ أفرادٍ من وظائف مؤسسية مختلفة معًا لفترة زمنية محدودة من العمل الجماعي المكثَّف؛ أمرًا يزداد شيوعًا. في مجال تطوير المنتجات، تقدِّم الهندسة رؤًى عميقةً في التصميم والتكنولوجيا، ويقدِّم التصنيع رؤًى متعمِّقةً في عمليات الإنتاج القابلة للتنفيذ، وتقديرات التكلفة الدقيقة، والإنتاج التجريبي، والإنتاج على نطاق واسع، ويقدِّم التسويقُ رؤًى متعمِّقةً في تقبُّل المستهلِك للمُنتَج، وقطاعات المستهلكين، وبناء الصورة الذهنية للمنتجات، وخطط المنتجات. إن دمج هذه المجموعات المختلفة من المهارات والرُّؤى أمرٌ ضروري، لكنه صعب في الوقت ذاته؛ ذلك لأن حالات سوء الفهم تنشأ بسبب اختلاف المعاني المُضمَّنة في التخصُّصات المختلفة، وغالبًا ما ينتج عن ذلك انعدامُ الثقة.
التنظيم المؤسسي والمهنة كلاهما مصدران مهمَّان للحدود التي تفرضها المعرفةُ. توجد الحدود المؤسسية في أي وقت يتعيَّن فيه على أفرادٍ من شركات مختلفة - أو حتى من مواقع مختلفة داخل نفس الشركة - العمل معًا. أما الحدود المهنية، فتنتج عن التدريب أو التعليم الذي يحترف الخبراء من خلاله فرعًا معرفيًّا متخصصًا، وهذا يجعل لهم عقلية - طريقةَ معرفةٍ - معينة، وتصبح هذه المعرفة مُسلَّمًا بصحتها. وتُعَدُّ اللغةُ الاصطلاحية المكتسَبة خلال التعليم والممارسة التخصُّصية لغةً غريبة نوعًا ما بالنسبة إلى الآخرين، وهذا يجعل تعاوُنَ الأفراد معًا في العمل - عبر «عوالم الأفكار» للمجتمعات المهنية - عُرضةً لحالات سوء الفهم.
في الوقت نفسه، في معظم المجالات، يستمرُّ التخصُّص في التوسُّع. يتطلب معدل تطوير المعرفة الجديدة أن يستثمر الأشخاصُ وقتًا كبيرًا لمجرد أن يظلوا مُطَّلِعين على أحدث التطورات، وهذا - بالطبع - يزيد من صعوبة إتقان تخصصات أخرى. وفي المجالات التقنية، يجعل تفجُّرُ المعرفة الجديدة من ظهور تخصصات فرعية احتمالًا واردًا بنحو استثنائي؛ فكل مجال يُنتِج مجالات فرعية جديدة، تُنتِج بدورها مجالات فرعية أكثر تخصُّصًا على نحو أكبر؛ على سبيل المثال: أصبحت الهندسة الكهربية - التي كانت يومًا فرعًا من الفيزياء - تخصُّصًا قائمًا بذاته منذ عام ١٩٠٠، واليومَ هي تنقسم إلى مجالات فرعية مختلفة؛ مثل: أنظمة القوى، ومعالجة الإشارات، ومعمارية الكمبيوتر. وحين يكون مجال التخصص محدودًا، لا يُحتمَل أن تحدُث ابتكارات عملية تفيد الأشخاص العاديين دون دمج تخصصات مختلفة معًا. يتطلب الابتكارُ العملَ الجماعي عبر حدود المعرفة؛ فسواء تعلَّقَ الأمر بتطوير هاتف خلوي جديد أو اكتشاف علاج لمرض السكر، من اللازم إيجاد الابتكار والتآزُر من خلال المزج المذهل بين الأفكار والأساليب، الذي يمكن أن يحدث فيما بين مجالات الخبرة.
اضف تعليق