القدرةَ على ابتكار منتجات أو خدمات عمليةٍ تحلُّ مشكلة معينة، أو تُلبِّي حاجةً ما، بل تفعل ذلك أيضًا على نحو مربح؛ تتطلَّب عملًا جماعيًّا وثقافةً مؤسسية تحتضن المتناقضاتِ، وعقليةً قيادية استثنائية. عادةً ما تتبنَّى المؤسسات المُبتَكِرة ثقافاتٍ تتبنَّى المتناقضات؛ ذلك لأن الابتكار يعتمد على تعايش أزواج من المتناقضات...
بغضِّ النظر عن المجال الذي تعمل فيه، من المرجح أن المنافسة الشديدة وحالة التقلُّب المتفاقمة ومطالب العملاء المتزايدة تزيد من الحاجة إلى الابتكار، لكن مجرد الدعوة إلى الابتكار ليست كافيةً لتحقيقه.
إن القدرةَ على ابتكار منتجات أو خدمات جديدة ومبتكرة وعمليةٍ تحلُّ مشكلة معينة، أو تُلبِّي حاجةً ما، بل تفعل ذلك أيضًا على نحو مربح؛ تتطلَّب عملًا جماعيًّا وثقافةً مؤسسية تحتضن المتناقضاتِ، وعقليةً قيادية استثنائية.
عادةً ما تتبنَّى المؤسسات المُبتَكِرة ثقافاتٍ تتبنَّى المتناقضات؛ ذلك لأن الابتكار يعتمد على تعايش أزواج من المتناقضات ظاهريًّا: كاللَّهْو والانضباط، والمعايير الصارمة والتجاوز عن الإخفاق والفشل، والاستعانة بالخبراء المُتَمَرِّسين والموظفين غير المتخصصين الذين يتعاطفون بشدة مع العملاء.
الفوضى العابثة والانضباط الموجَّه:
إن المؤسسات التي تبتكِر -سواء للتوصُّل لنموذج عمل جديد، أم للخروج بمنتج جديد، أم لتحسين عملية بعينها- تعرف كيف تركِّز على أي مشكلة مهمة. في الوقت ذاته، الابتكار عملية بشرية بحتة من بدايتها إلى نهايتها؛ وهي غيرُ قابلةٍ للتوقُّع بطبيعتها، وفوضويةٌ في كثير من الأحيان. فإذا كنتَ تريد أن تبتكِر، يتعيَّن عليك أن ترحِّب بأي فكرة، على الأقل في مرحلة مبكرة قبل غربلة الأفكار، لكن الترحيب بكل الأفكار، بما فيها الأفكار «السخيفة»، يخلق نوعًا من الفوضى.
يتمثَّل الحل في طرح أسئلة جيدة، مع عدم معرفة الإجابة عنها سابقًا! إن فرانك ريبو هو الرئيس التنفيذي لمجموعة دانون -وهي شركة سلع استهلاكية مبدعة وهادفة (أكثر ما تشتهر به هو الزبادي)- التي أعادت بناء نفسها مرات ومرات عبر تاريخها الذي يمتد إلى ٩٤ سنة؛ إنه يرحب بفوضى عدم المعرفة السابقة لما سيتوصَّل إليه موظفوه. وفي مقابلةٍ أُجرِيت معه من أجل دراسة حالةٍ لكلية هارفارد للأعمال، قال:
إن الأمر يشبه صندوق قطع الليجو الذي تشتريه لأطفالك؛ فهم يبدءون اللعب محاولين العثورَ على طريقة لتكوين الصورة الموجودة على صندوق الليجو، وبنهاية اليوم يستسلمون ويُلقون بالصندوق، ويرمون بالقطع بعيدًا. في عطلة نهاية الأسبوع التالية، تضع كلَّ قطعِ الليجو على الأرض، فيحاولون تخيُّلَ شيءٍ ما؛ ليس الصورةَ الموجودة على الصندوق، وإنما ما يوجد في رءوسهم.
بالنسبة إلى ريبو، تتحقَّق الاستراتيجية حين يأتي الموظفون بفكرة جديدة، وليس حين يتبعون الدليلَ الإرشادي.
حظيت شركة التصميم آيديو -المشهورة بنجاحها في تطوير المنتجات- باهتمام إعلامي بسبب عملية التوليد الحرِّ للأفكار التي تطبِّقها؛ تلك العملية التي تركِّز على الوصول لحلول جذَّابة للعملاء. تنحرف الشركة انحرافًا واضحًا عن ثقافة الانفصال التي تسود بيئةَ العمل الحديثة؛ حيث تكون مهامُّ الأفراد محدَّدةً ومقيَّدةً على نحو كبير. إن آيديو تنضح بالمرح، بالإضافة إلى توفيرها ﻟ «صندوق التقنية» الممتلئ بأشياء غريبة لإثارة الترابطات والأنماط والأفكار في أذهان الموظفين، وتتعمَّد الشركة تعيينَ موظفين من مجموعة متنوعة من التخصُّصات؛ بحيث تضع أشخاصًا ذوي خلفيات مختلفة، ينظرون إلى المواقف من زوايا مختلفة، معًا في فِرَق المشروعات.
إنَّ منهجية آيديو لتحقيق الابتكار في تطوير المنتجات تقوم على التعاون بين أفراد الفرق المتعددة التخصصات، والتفكير الإبداعي، والتركيز الشديد على احتياجات المستخدمين، لكنها تتضمن كذلك عملية منضبطة. على الرغم من كل عمليات الاستكشاف والتجريب، فإن كل مرحلة من هذه العملية تتضمَّن «أمورًا يجب إنجازها»، كما تسود عقلية مادية تسعى للوصول لنتائج.
الخبراء المحنكون والمفكرون الشاملون:
يحدث الابتكار حين يجتمع عدد من الخبراء (في موضوع محدد، أو مجال معين، أو تخصص إكلينيكي ما، على سبيل المثال) والمفكرين الشاملين غير المتخصصين معًا. يركِّز المفكرون غير المتخصصين على الهدف؛ وهو أمرٌ عادةً لم يسبق فعله من قبلُ. من دون هؤلاء، يمكن أن يبقى المتخصصون عالقين في الماضي، قانعين بما أمكن فعله، أو بما استحال فعله، فيما سبق، إلا أن غير المتخصصين يفتقرون إلى عمق خبرة المتخصصين وعمليتها (على المستويين التقني والإجرائي، بل العاطفي أيضًا).
المدينة الطبية الواقعة بمنطقة ليك نونا هي مجمع بحثي وسكني يقع على مساحة ٧ آلاف فدان في منطقة سنترال فلوريدا. كانت مجموعة تافيستوك (وهي مؤسسة استثمارية خاصة) هي التي تزعَّمت فكرة إنشاء هذا المعمل الحي. كان المشروع يهدف إلى إنشاء مجمع ابتكاري - بالإضافة إلى منطقة سكنية مخططة بالكامل - ينصبُّ اهتمامه على البحث الطبي الحيوي، والرعاية الإكلينيكية، والتعليم الطبي في بيئة صحية صديقة للبيئة. أسست تافيستوك شركة ليك نونا بروبرتي هولدينجز لبناء المنطقة السكنية، ومعهد ليك نونا غير الهادف للربح لدعم المهمة التي تسعى لتحقيقها. وبحلول عام ٢٠١٢، تسلَّمت مجموعة مختلفة من الشركاء أجزاء المشروع المختلفة لإدارتها.
أدرك ثاد سيمور - رئيس معهد ليك نونا - أنه لتحقيق أهداف المدينة الطموحة، عليه أن يعمل بفعالية بالتعاون مع مجموعة متزايدة من الشركاء عبر قطاعات وصناعات مختلفة. وبدلًا من الاستعانة بمطورين عقاريين تقليديين، زوَّد قادةُ شركةِ تافيستوك شركةَ ليك نونا بروبرتي هولدينجز ومعهدَ ليك نونا، بمسئولين تنفيذيين من خلفيات مختلفة، كلٌّ منهم يمثِّل مجال خبرة يعكس ركنًا أو اثنين من الأركان الأربعة الآتية: الاستدامة، والتكنولوجيا، والصحة والطب البديل، والتعليم.
وقد لخص عمدة مدينة أورلاندو بادي داير أسباب نجاح المشروع، في خطبةٍ ألقاها في فبراير من عام ٢٠١٢ قائلًا:
مع إدراك أننا لم نكن لنستطيع التنافُس على الشركات والوظائف المستقبلية، إلا بإعادة تحديد الطريقة التي تتعاون بها منطقتنا بأسرها معًا؛ التزم هذا المجتمع بمستوًى من التعاون لم تشهده منطقة سنترال فلوريدا من قبلُ قطُّ. وبتعزيز الشراكة الضرورية لإنشاء المدينة الطبية هذه، فإننا لم نبنِ مشروعًا واحدًا وانتهى الأمر عند هذا الحد، بل وضعنا كذلك خارطة طريق لكيفية إنجاز المهامِّ الكبيرة والمهمة، وكيفية التغلب على التحديات التي تواجه مجتمعنا.
أشار كثيرٌ من المشاركين في هذا المشروع إلى الدور الذي لعبته ثقافة المعهد في دعم الابتكار؛ فمن أجل التشجيع على الابتكار، اتَّبع قادةُ المشروع منهجيةً استثنائية في التطوير العقاري. وقد وصف قادةُ المؤسسات المختلفة التي تمت الاستعانة بخبراتها في إقامة المشروع، قادةَ المشروع بأنهم قاموا بدور «المحفز» و«المدير» و«المهندس» و«الموجِّه» و«داعم التعاون»، وقد أكَّدوا على أن استراتيجية فريق قيادة المشروع تمحورت حول التشجيع على الابتكار من خلال الاستثمار في التعاون.
المعايير الصارمة والتسامح البالغ مع الفشل والإخفاق: يحدث الابتكار عندما تُعزِّز ثقافةُ المؤسسة المعاييرَ العالية المستوى والتسامُحَ البالغ في الوقت ذاته مع الفشل والإخفاق. قد يبدو ذلك متعارضًا للوهلة الأولى، لكنه أمر معقول في حقيقة الأمر. إن الابتكار يتطلَّب التكرار، ويتطلَّب حافزًا وطموحًا، لكنه يتطلَّب كذلك تقبُّلَ فكرةِ أنك لن تنجح في فعل شيء من المرة الأولى، كما أن نشر شرارة الابتكار الناجح في مؤسسة كبيرة يتطلَّب إيجادَ طرقٍ لتسليط بعض الضوء على المبتكرين؛ حتى ينجذب الآخرون لتجربة الابتكار أيضًا.
اشتهرت شركة ثري إم التي تعمل في مجال التكنولوجيا بابتكاراتها الناجحة، من خلال تشجيع التجريب الموجَّه، وتنمية ثقافة التسامح مع الفشل، بل مكافأة الفشل أيضًا. يُرَى الفشَلُ على أنه خطوة ضرورية ضمن العملية الأكبر المتمثِّلة في تطوير منتجات مبتكرة وناجحة؛ وتنتشر في كل مكان داخل وخارج الشركة قصص مشكوك في صحتها، مثل قصة آرثر فراي والمادة اللاصقة الفائقة الفاشلة، التي مهَّدَتِ الطريقَ لظهور صناعة ورق الملاحظات اللاصق. كما أن تحديد أهداف، مثل أن يكون مصدرُ ٢٥ بالمائة من أرباح قسمٍ ما منتجاتٍ تم طَرْحها خلال السنوات الخمس الماضية؛ يعني أن الأقسام - بالتأكيد - يجب أن تقوم بالتجريب النَّشِط من أجل تطوير منتجات جديدة.
اضف تعليق