د. هيثم الحلي الحسيني
هناك مجموعة من العوامل، التي تؤثر في طبيعة عمل المنظمات غير الحكومية NGO,S، ومستوى تطورها، ودرجة تأثيرها في المجتمع، وقبل ذلك تصنيفها ضمن مكونات المجتمع المدني، ومن ثم محاور أنشطتها المجتمعية الخدمية، في الدفاع عن مصالح الفئات التي تمثلها، ضمن الجماعات الخاصة في هذه التنظيمات، وكذا تطلعات عموم المجتمع وإهتماماته، ضمن الجماعات العامة فيها.
وكذا التأثير السياسي لهذه التنظيمات، ومستوى الضغط، الذي تمارسه جماعاتها على الحكومة، وقدرتها على ايصال صوتها إلى مراكز القرار، والمشاركة في رسم ملامح النتائج الانتخابية الدستورية، ومخرجاتها في إتجاهات تشكيل التحالفات السياسية والنيابية، التي تخلص الى تشكيل الحكومة، ونيلها الشرعية والثقة في المجالس النيابة التشريعية، وذلك من خلال وظيفتها باعتبارها "جماعات ضغط"، ومن ثم متابعة أدائها ومراقبة شرعيتها في "الإنجاز".
ويمكن تأشير العوامل التالية، من وجهة النظر الأكاديمية وأدبيات المجتمع المدني ومتبنياتها:
1. العامل "الديموغرافي"، السكان وتوزيعهم
يؤشر العامل السكاني "الديموغرافي"، من خلال الحضور السكاني وتنوعهم وكثافتهم، على مستوى الأنشطة التي تمارسها المنظمات غير الحكومية، وانتشارها ومواقع تأثيرها جغرافيا.
2. عامل التكوين الاجتماعي للسكان
ينعكس عامل التكوين الإجتماعي، والطبيعة الطبقية، على مستوى الانتماء في منظمات المجتمع المدني، وبالتالي خارطة تلك المنظمات، وأنواعها التي تكون أكثر تأثيرا وحضورا.
وعليه فإن هذا العنصر والذي سبقه، المتعلقين بالتكوين السكاني "الديموغرافي" والإجتماعي، يقرران على مستوى إمكانية مكونات المجتمع المدني وكفاءته وقدراته، فضلا عن متطلباته وتوجهاته، التي قد تتباين بين ساحة وأخرى، ليتمكن من ضمان تحقيق أحد المهام الأساسية في بنيويته الوظيفية، وهي لجهة بناء المجتمع السليم، وتأمين الخدمات الضرورية له، وفق إحتياجاته والواقع الذي يقوم عليه، ضمن العناصر السكانية والإجتماعية.
3. مستوى التطور في البناء الديمقراطي
ان مستوى التطور للمؤسسات السياسية والدستورية، يتيح لمنظمات المجتمع المدني، أن تمارس دورها الاجتماعي بشكل حضاري، وفق تقاليد ديمقراطية، ومن ثم تأثيرها على المسار السياسي للدولة، ونوعية قراراتها.
4. مستوى انفتاح النظام السياسي
ويعنى به انفتاح الدولة والحكومة والمؤسسات العاملة فيها، على مصادر المعلومات المؤسسة لعملية صنع القرار، والتأثير في مركز اتخاذ القرار، والتي تكون قاعدتها الرئيسة، منظمات المجتمع المدني، التي تكون فاعلة، في عمليات قياس الرأي العام، بمختلف وسائله الاستقصائية، في طرائق الإتصال أو الملاحظة أو المقابلات أو الإستبيان، وبذلك تساهم هذه المنظمات، في دورة تشكيل وإنتاج القرار السياسي.
إن الدولة التي تعتمد نظام المؤسسات، ومسارات الديمقراطية طريقا لممارسة السلطة، عليها إعتماد كلٍّ من "فلسفة الديمقراطية"، وكذا "آلياتها"، ومن بينها التعددية السياسية وعملية التداول السياسي السلمي للسلطة، من خلال الشرعية المستمدة من صوت الشعب، أو الكتلة الإنتخابية، كما يطلق عليها في النظام الإنتخابي.
كما أن الديمقراطية، لا تتحدد بالصندوق الإنتخابي حصراً، وسيلة للاستحواذ بالسلطة، والبقاء فيها وممارستها، بل هنالك وسائل أخرى، تنقل مؤشرات ضرورية، عن رضا القاعدة الشعبية بالأداء الحكومي، أو حتى لجزء من هذه القاعدة، فهذه الوسائل الأخرى، قد كفلتها الدساتير الديمقراطية، التي تعبر عن العقد الإجتماعي بين الشعب والدولة، كحقوق حرية التعبير، في الصحافة والتجمعات الشعبية، وحقوق الإحتجاج والإضراب، والتمرد أو العصيان أو الإعتصام المدني السلمي، والمسيرات أو التظاهرات السلمية، وغيرها من وسائل التعبير والإختلاف في الرأي والضغط الشعبي.
إن هذه الوسائل جميعا، تمارسها القاعدة الشعبية، من خلال أدوات الضغط، كي تكون ضامنة لمراقبة الشعب للأداء الحكومي، وموضوعية الحكومة ومصداقيتها، في البرامج السياسية التي طرحتها، ضمن ماكينتها الإنتخابية، وسلوكها وأخلاقياتها في السلطة، فهذه التدابير المختلفة، تمارسها المنظمات غير الحكومية، من خلال ما يعبّر عنه، بجماعات الضغط، وبذلك تضمن إنسجام آليات الديمقراطية، مع فلسفتها، وتعبّر عن جوهرها ومضامينها، ولا تتقاطع معها.
فهذه الثنائية المتلازمة، بين آليات الديمقراطية، والفلسفة المعبرة عن جوهرها فكرا ورؤى، تمنع استبداد الكيانات السياسية، التي تقبل ممارسة آليات الديمقراطية، كوسيلة توصلها لسدة السلطة والحكم، لكنها في جورها الفكري والعقدي، لا تؤمن بفلسفة الديمقراطية، فتنعكس عقديتها، في سلوكها غير الديمقراطي، بعد إستلامها السلطة، من خلال الإستفادة من آليات الديمقراطية حصرا، وتصيٍّد النهايات السائبة، في العملية الديمقراطية، التي قد يكون قد غفل عنها الدستور، أو قد تكون قابلة للإجتهاد، وإختلاف التفسير والتأويل فيه، وبذا تفقدها شرعية "الإنجاز"، وإن ضمنت شرعية الصندوق الإنتخابي.
وعليه تعدّ مكونات المجتمع المدني، من بين الآليات الضامنة للممارسة الديمقراطية السليمة، في دولة المؤسسات، والتي تعبر عن فلسفة الديمقراطية وسلوكياتها وأخلاقياتها وأنسنتها، بصفتها نهجا في الحياة، وتمنع الإستبداد وقمع الحريات الشعبية، التي يكفلها الدستور والقوانين النافذة، فتكبح جماح الكيانات أو الأشخاص، الذين تتوفر فيهم مرئيات الديمقراطية، وإمكانية توظيف "معارفهم" و"مهاراتهم" في لعبتها، لكنهم يفتقدون لعنصر "الإتجاه" فيها، الذي يوفر السلوك والمبدئية والإيمان، بجوهرها ومدركاتها.
وإن هذه الإشتراطات، تمكن منظومة المجتمع المدني، من تنفيذ أحد أهم مهامها الوظيفية، وهي توفير الموازن الاستراتيجي للحكومة، ليحول دون الاستبداد الحكومي لحقوق الشعب، ومصادرة حرياته الأساسية، ويعد هذا الموازن، من بين أهم الثوابت في الفكر المجتمعي الإسلامي، الى جانب البناء السليم للدولة ومؤسساتها، والخدمات والتنمية، والتي لا يعتبرها منظرو الفكر المجتمعي، حكرا على الدولة، أو بعبارة أخرى من بين مهام الدولة الحصرية، والتزاماتها الوظيفية، إزاء "دافعي الضرائب"، وهو تعبير عن موارد الدولة، التي يجري تأمينها من مواطنيها، إزاء الخدمة المقدمة لهم، بما في ذلك الدفاع والحماية الداخلية.
فهذه الضمانة الوظيفية، يقررها عامل التطور في البناء الديمقراطي، الذي وصلته الدولة، وكذلك مستوى الإنفتاح في النظام السياسي، الذي تعتمده دولة المؤسسات، على آليات الديمقراطية، والقبول بفلسفتها ضمنا، بل ودعمها وتطويرها، لأنها ساندة وداعمة للدولة والحكومة المنتخبة، في تمكينها من تنفيذ برنامجها الحكومي والسياسي، والإيفاء بإلتزاماتها، إزاء الشعب عموما، ممن صوّت لها في الإنتخابات، أو لم يفعل.
5. العامل الاجتماعي الاقتصادي
يرتبط العامل الإقتصادي الإجتماعي بدور الدولة، فعندما تنسحب الدولة، أو ترقق حضورها في مجالات وقطاعات معينة، مثل التعليم أو الصحة أو الإعلام، سيفرض ذلك على منظمات المجتمع المدني، لان تنشأ لسد وملئ الفراغ الناشئ عن ذلك، في تلك القطاعات، سواء بتقديم الخدمات فيها بأسعار رمزية أو مجانية، أو تشكيل التنظيمات الناشطة في تلك القطاعات، فضلا عن الحضور ضمن المجالات التنموية والإقتصادية، الموفرة للتشغيل والأيدي العاملة، أو ضمن الأنشطة المدرّة للدخل، وتأمين الحاجات المعيشية، للفرد والمجتمع، خاصة عندما تنحسر أدوار الدولة وفعالياتها، عن قطاعات حيوية، مثل الصناعة أو الزراعة.
6. عامل العلاقات أو الروابط الدولية المتيسرة
نتيجة ازدياد الاهتمام الدولي والدعم العالمي، لأنشطة المنظمات غير الحكومية، خاصة في الدول حديثة العهد بهذه الانشطة، تتشكل علاقات بينية ودولية، داعمة وساندة للعمل المجتمعي، وتبرز في العالم، منظمات متخصصة لدعم منظمات المجتمع المدني، يطلق عليها "منظمات دعم المنظمات"، أو الجهات الدولية المتبرعة والمانحة، الداعمة لأنشطة المجتمع المدني، عبر مختلف الوسائل والسبل، ومنها استخدام شبكة المعلومات الدولية، ووسائل الإتصال السريعة المتيسرة، وعبر منافذ التواصل الإجتماعي، وبما ينسجم مع التشريعات الوطنية النافذة، ويستجيب لمتطلباتها وإشتراطاتها.
وعادة تستفيد منظمات المجتمع المدني، من هذه الطرق والمصادر في تمويل أنشطتها، ودعم العاملين فيها، مع ضمان عدم التأثير بتوجهاتها وإستقلاليتها، وبشرط الإنسجام مع القوانين النافذة في الدولة.
وقد يكون للفكر المجتمعي الإسلامي، مقاربة أخرى لهذه العوامل، إن في تحديد أسبقياتها، أو في تأكيد بعضها وتجاهل البعض الأخر، إنطلاقا من ثوابت العقيدة الإسلامية، ورؤاها للمجتمع الإسلامي المنشود.
وفي المقدمة من حالات الرفض، لمضامين هذه العوامل، وإسقاطاتها على مقاربة التصنيفات المتعلقة بالمؤسسة الدينية، هي النظرة الى المؤسسة الدينية، باعتبارها جزء من مكونات المجتمع المدني، وبذا تكون هذه المؤسسة وتشكيلاتها وتفريعاتها، ومن بينها الحوزة الدينية، أو المرجعيات الدينية، أو دور الفتوى، التي تقود المؤسسة الدينية بكافة هيئاتها وأنشطتها، هي شكل من أشكال منظمات المجتمع المدني.
فالحجم الأكبر من أعمدة المؤسسة الدينية وزعاماتها، لا يقبل بهذا التصنيف والتعيين، والأصل في ذلك، أن أي تصنيف لمرجعيات المؤسسة الدينية، سيكون بعنوان النيل من شأنها، ومكانتها الإعتبارية القائدة في المجتمع، التي يجب أن لا يجري تصنيفها أو مقارنتها، مع أية تصنيفات مجتمعية أخرى، وبنفس الأسباب لجهة التصنيفات الأخرى، كالعلمية أو الثقافية أو غيرها، لأن ذلك مساس، في الجانب الاعتباري الرفيع للمؤسسة الدينية.
غير أن موقف المؤسسة الدينية، من تنظيمات المجتمع المدني ومكوناته، لا ينصرف الى واجهات المؤسسات الدينية، التي تنشط بمجالات مختلفة، سواء في الجانب الثقافي والتوعوي والوعظي، أو في مجالات الخدمة والرعاية الإجتماعية، وحتى في مجالات البحث العلمي والتربية والتعليم، والصحة والتنمية وسواها، ويدخل في ذلك الهيئات الناشطة في إحياء الوفيات والموالد والمناسبات الدينية المختلفة.
فجميع هذه التفريعات، لا خلاف على تضمينها ضمن مكونات المجتمع المدني، بإعتبارها منظمات مجتمعية غير حكومية، ولا غضاضة في إسنادها ودعمها وتمويلها، من قبل المؤسسة الدينية وزعامتها، في إعتبارها جهة مانحة غير حكومية، والحال لا يجوز أن تمول من قبل الدولة إستثناءً، أسوة بسواها من منظمات المجتمع المدني.
وقد جرى تسجيل الكثير من هذه الواجهات، بصفة منظمات غير حكومية NGO،S، كنموذج العراق، بإعتبار أن سائر واجهات المؤسسة الدينية وأنشطتها، في المجالات المختلفة، تنطبق عليها مضامين العوامل المؤثرة في المجتمع المدني.
اضف تعليق