مكمن الخطورة. الإعلام لا يوجهنا بشكل مباشر، لكنه يُشكّل عقولنا عبر آليات ناعمة، ويزرع فينا أفكارًا وسلوكيات ومفاهيم ما كنا لنقبل بها قبل عقد أو عقدين من الزمن، وبالتالي، فإننا – شئنا أم أبينا – أدوات داخل ماكينة إعلامية ضخمة. نعتقد أننا نختار بحرية، بينما نتحرك ضمن خيارات مرسومة بدقة من قبل من يملكون أدوات التوجيه...
في عالم الإعلام المتغير، ومع تطور التكنولوجيا، لم يعد المتلقي مجرد مستقبل للرسالة كما كان في الإعلام التقليدي (الصحف، الإذاعة، التلفزيون). لقد تحول الجمهور إلى منتِج ومستهلك في آنٍ واحد، فيما يسمى اليوم بـ"المجتمع المنتج-المستهلك". ومع هذا التحول، يبرز سؤال جوهري: هل نمتلك حقًا حرية إعلامية؟ أم أن هناك من يوجّهنا ويصنع اختياراتنا دون أن ننتبه؟
لفهم ذلك، لا بد أن نتوقف عند نظريات الاتصال والإعلام التي ناقشت طبيعة العلاقة بين الجمهور والرسالة الإعلامية. فـ"نظرية الرصاصة السحرية" ترى الجمهور متلقيًا سلبيًا، يتأثر بشكل مباشر بالمحتوى. بينما تذهب "نظرية تحديد الأولويات" إلى أن وسائل الإعلام لا تخبر الناس بما يفكرون فيه، لكنها تحدد لهم ما يجب أن يفكروا فيه.
لكنني هنا لا أريد الوقوف كثيرًا عند هذه النظريات، بل أود أن أتجاوزها إلى ما هو أعمق: من يُحرّك الإعلام فعليًا؟ لا أقصد فقط المؤسسات الإعلامية العالمية مثل BBC أو CNN، فهي مجرد أجزاء من منظومة إعلامية ضخمة تُدار في النهاية من قبل من يملكون رأس المال والنفوذ. هؤلاء هم الذين يحددون الاتجاهات، ويصنعون الخطاب، ويعيدون تشكيل وعي المجتمعات.
وهنا نعود إلى السؤال الأهم: هل نمتلك حرية إعلامية؟
في رأيي، علينا الانطلاق من مقولة الإعلامي الكبير محمد حسنين هيكل: "لا يوجد إعلام لوجه الله تعالى". وهي مقولة تكاد تختصر كل شيء. فحتى في الإعلام الرقمي، حيث نظن أننا أحرار ونصنع رسائلنا بأنفسنا، نحن في الحقيقة نعمل داخل حدود مرسومة لنا بدقة.
سأشرح الأمر بمثال من واقع عملي في مجال الطفولة، حين كنا نعلّم الأهل طريقة تربوية تُعرف بـ"الحرية المقيدة" أو "الاختيار ضمن الحدود". المربي لا يقول للطفل: هل تريد أن ترتدي هذا اللباس أم لا؟ بل يقدّم له ثلاث خيارات محددة مسبقًا، ويطلب منه أن يختار من بينها. يبدو الطفل حينها كأنه حر في قراره، لكنه في الحقيقة يتحرك ضمن إطار رسمه له الكبار.
وهذا بالضبط ما يفعله الإعلام اليوم. يمنحنا خيارات عديدة، لكنه يُغفل طرح أسئلة جوهرية. يسألك: هل تفضل الفن الحديث أم القديم؟ لكنه لا يفتح باب السؤال: هل تشاهد إلى الفن أصلًا؟ هل تراها مناسبة لقيمك ومبادئك؟
وهنا مكمن الخطورة. الإعلام لا يوجهنا بشكل مباشر، لكنه يُشكّل عقولنا عبر آليات ناعمة، ويزرع فينا أفكارًا وسلوكيات ومفاهيم ما كنا لنقبل بها قبل عقد أو عقدين من الزمن.
وبالتالي، فإننا – شئنا أم أبينا – أدوات داخل ماكينة إعلامية ضخمة. نعتقد أننا نختار بحرية، بينما نتحرك ضمن خيارات مرسومة بدقة من قبل من يملكون أدوات التوجيه، وأهدافهم لا ترتبط بالضرورة بالمصلحة العامة أو القيم المجتمعية، بل أحيانًا بما هو تجاري أو أيديولوجي بحت.
نعم، نحن نعيش حرية إعلامية... لكن ضمن حدود لم نخترها.
اضف تعليق