ان بغياب الرصانة، تتعملق الاثرة والاثراء الشخصي، ويتعاظم تغليب المصلحة الشخصية، فتغيب الأهداف الكبرى المتوخاة من وراء (الاعلام) الذي يفترض ان يكون حقيقياً ورصيناً وصادقاً وجاداً مع الناس.. فلبس بعض الإعلاميين المبرزين لباس التدليس، ونزعوا لباس الموثوقية، وارتدوا أقنعة النفاق، وخلعوا أردية الصدقية، وغادروا صفوف الفقراء...

ربما يزدحم الفضاء الإعلامي العراقي بأكثر من ستين فضائية ونيف، بعضها تحت مظلة الحكومة، وكثرة كاثرة، منها عائدة لكتل او أحزاب او شخصيات سياسية، او رجال اعمال، او جماعات بعينها، وربما لتجمعات مذهبية او دينية، ومؤكد ان بين كل هؤلاء فجوات وبون سياسي شاسع، غالباً ما يشهد إصطراعاتٍ بين الكبار، فما يروع الناس إلا وقد إنتقل هذا الاصطراع والاصطكاك الى مستوى الاعلام، فنجد سخونة هذا الاصطراع تصل الى استحصال شخصيات إعلامية بارزة، ربما برزت خلال مخاضات الاعتراك السياسي، لاسيما خلال مواسم الانتخابات.

  وقد تحتدم ابجديات هذا الاصطراع والتنافح السياسي الى شاشات التلفزة، فترى الاستكلاب على استجلاب مقدم البرامج الفلاني، او مقدمة البرامجة العلانية كجزءٍ من مفردات هذا الإصطراع، حتى باتت رواتب بعض الإعلاميين المبرزين تصل الى ما يزيد على (15000 دولار)، وبعضهم يحظى بما يفوق الـ( 400.000 دولار) لقاء انتقاله من قناةِ تلفزةٍ لأخرى، في تنازلٍ فاضح لمبادئه التي كان يتبناها، لمجرد ان ذاك الطرف يدفع اكثر.

 إن تدني مستويات بعض المحسوبين على الإعلام، جعل رائحة الابتزاز السياسي تفوح من سياقات واسئلة برامجهم، فالإبتزاز السياسي بيّنٌ واضح فيها رغم انه مغلفٌ بأثير الاعلام، فعلامات التجيير الفاضح (لمؤثري الاعلام) في توجيه الرأي العام، وفي عمليات الإبتزاز المنكرة أضحت جليّة بيّـنة، من اجل إحداث التأثير المرجو على الجمهور، وإن كان عبر التزييف والكذب والتدليس والتملق.

  من هنا رأى الناس، عمليات شراء فاضحة لذمم بعض مقدمي البرامج السياسية البارزة، حتى بات بعض مقدمي البرامج يُستخدمون كحرابٍ متقدمة في المعارك السياسية الضارية، وفي معارك فت العظام بين بعض الأحزاب والكتل السياسية، بل حتى بين مالكي الفضائيات، فأضحت تلك الثلة من المقدمين بمثابة أدواتٍ سياسيةً تُشهر، وتتم المناطحة بها، او المنافحة ببرامجها، وزجهم في إتون وخضم الخلافات السياسية المحتدمة، والاصطراعات الفئوية او الحزبية المتأججة.

  إن استحالة هؤلاء الثلة من مقدمي البرامج السياسية كجزءٍ من الإصطراع السياسي او أدوات فيه، لهو أمر ينذر بانهيار الصدقية لدى بعض المنظومات الإعلامية، وإفلاس في إرثها من المبادئ و خواء في خزينها الإعلامي. فبعضٌ من مقدمي البرامج التلفزيونية شكلوا في مخاضاتٍ سياسيةٍ سابقة جزءاً من مسار بعض المفاوضات التي جرت بين كتل سياسية بعينها، بل أصبحوا في بعض الاحيان عرّابين لوصول بعض الشخصيات الى مناصب تنفيذية.

وبالتالي كان لذلك تأثير كبير، وتغير هائل في نظرة الناس الى مهنية مقدمي البرامج السياسية، حتى بات الوجه السياسي يغلب على المهني في بعض جوانب هذه المهنة الإعلامية، حتى غابت الصدقية المفترضة لدى بعض مقدمي البرامج، واضمحلت لديهم ثمار سلّة المبادئ، وتصاغرت عندهم هالة الثوابت، وهم الذين كان يفترض بهم، انهم يمثلون ميزان الطرح الصادق، ومنصة الرأي الثابت، وقاعدة الموقف النبيل، والتمثيل الأقرب لمواقف الناس.

غير ان كل ذلك ذاب واضمحل وذوى امام بريق الدولارات، فبغياب ركائز المهنية الحقة لدى هؤلاء النفر من (الإعلاميين)، غابت الصدقية والموثوقية من قاموسهم، واتجهت دفة بعض (البرامج) من كونها اللسان المعبر عن الناس، الى ضفة الاصطفاف الحزبي والكتلي، وبالتالي نتج عن ذلك انعدام للمصداقية، وتجيير الطاقات الإعلامية في المعترك السياسي، حتى انعدمت ابرز ثوابت العمل الإعلامي الرصين.

 دون شك، ان بغياب الرصانة، تتعملق الاثرة والاثراء الشخصي، ويتعاظم تغليب المصلحة الشخصية، فتغيب الأهداف الكبرى المتوخاة من وراء (الاعلام) الذي يفترض ان يكون حقيقياً ورصيناً وصادقاً وجاداً مع الناس.. فلبس بعض الإعلاميين المبرزين لباس التدليس، ونزعوا لباس الموثوقية، وارتدوا أقنعة النفاق، وخلعوا أردية الصدقية، وغادروا صفوف الفقراء، وبرحوا منصات المطالبة بحقوق الأكثرية، فاستحالوا الى رؤوس حرابٍ لحرف الرأي العام، بدل انارته، وبدل كشف الحقائق إليه، حتى إنتبهت الناس الى هذه الثلة المحسوبة على (الاعلام زوراً وبهتناً) إلا وقد أضحوا من أصحاب الملايين والمليارات، فيخيل اليك حين تنظر لسياراتهم وارتالهم وقصورهم، كأنهم من زمن الملوك والأباطرة لفرط الثراء المفاجئ، فنسوا الناس، ونسوا مبادئهم، وتغافلوا عن ثوابتهم، فأنساهم الله انفسهم، فركنوا الى شيطان المال، وإبليس الثراء، فوكلهم الله الى انفسهم، ففقدوا منزلتهم المفترضة لدى جمع الفقراء، وغاب تأثيرهم على الرأي العام بعد الافتضاح الى الأبد، بعد ان علقوا ذممهم فوق شماعات الكذب والنفاق، فكانوا شياطين الوسوسة الإعلامية، وأبواقاً جوفاء مخرجاتها فقاعات الكذب، وزبد التدليس.

اضف تعليق