الحقيقة أن هذه الأمكنة التي توفر الظل والمجال البارد صيفاً والدافئ شتاءً، ليست محض أمكنة عابرة في الذاكرة النجفية؛ ففيها عاش العديد من العلماء والشعراء الكبار، وكانت حواراتها مدارس متنقلةً يتعلم فيها الصبي اللغة، ويسمع أسماء الكتب الشهيرة؛ ففي كل زقاق حكاية...
الأزقة جمع (زقاق)، وتعني الدروب الضيقة، والزقاق طريق نافذ أو غير نافذ، هكذا يقول علماء اللغة العربية في معنى هذه اللفظة، التي تحمل من المعاني والدلالات الكثير، لأنّها بكل بساطة ترتبط بحياتنا الجوانية، الاسترارية، ففي كثير من الأحيان يكون الزقاق جزءاً مكملاً من باحة البيت، لأنه سيحتوي حياة أخرى. ففيه تجري أحداث وأحداث، وفيه تتكون روابط وعلاقات اجتماعية متينة تجعل من أهل الزقاق كأنهم عائلة واحدة تتقاسم في كثير من الأحيان الطعام والماء والأخبار.
وهي في اللهجة النجفية تسمى: (العكود) حيث تنتشر في المحلات القديمة، لطبيعة المناخ الصحراوي الذي يسيطر على المدينة. فهذه الأزقة تحمي من الشمس والحر اللاهب فضلاً عن الغبار والتأثيرات الجوية الأخرى. وهي أزقة مختلفة عن الأزقة التي نراها في المدن الأخرى، لأن طبيعة العمارة النجفية مختلفة. إذ تمتاز بطولها وتعرّجاتها الكثيرة، هذا بالطبع فضلاً عن الأبواب ومداخل البيوت وبعض الشناشيل التي تعطي سمة خاصة لهذه الأزقة.
وتنتشر في محلات النجف الأربعة: (البراق، والمشراق، والعمارة، والحويش) العديد من هذه الدروب، التي يشكّل بعضها شبه متاهة لمن لا يعرفها، فقد تدخل ولا تعرف كيف تخرج، إلاّ إذا كنتَ من أبناء هذه المحلات وتعرف الصغيرة والكبيرة لأنها تتشابه جداً.
ترتبط تسميتها عادة بأسماء العوائل التي تسكنها، مثل عكد آلبو عجينة، وآلبو الشمرتي، آلبو زيني، آلبو عنوز، آلبو الجوهرجي، آلبو ناجي، آلبو جاحم، الشيخ عبد الرزاق البحراني، الشيخ عبد الرزاق المدرس، الشيخ مهدي البروجوردي، آل الحمّامي، آل شمس علي، بيت الحاج مرزوك العواد شيخ العوابد، بيت المهنا، وغيرها الكثير.
وقد تقاربت هذه العوائل فيما بينها في أفراحها وأحزانها، ومجالسها الثقافية والدينية، ويومياتها البسيطة في سرائها وضرائها، حيث تحتفظ بكل تلك التفاصيل الدقيقة التي تتكون منها يومياتها الحياتية.
الحقيقة أن هذه الأمكنة التي توفر الظل والمجال البارد صيفاً والدافئ شتاءً، ليست محض أمكنة عابرة في الذاكرة النجفية؛ ففيها عاش العديد من العلماء والشعراء الكبار، وكانت حواراتها مدارس متنقلةً يتعلم فيها الصبي اللغة، ويسمع أسماء الكتب الشهيرة؛ ففي كل زقاق حكاية، حيث تبارى الأطفال في حفظ المطولات الشعرية والمقطوعات النثرية الشاهقة في الأدب العربي. وكانت ولا تزال جزءاً من التراث المهم لهذه المدينة العريقة.
اضف تعليق