بائعات الرصيف لوحة إنسانية مفعمة بالحياة، ستظل عالقة في خيال أجيال كثيرة وقد وثقتهن بعض اللوحات التشكيلة والصور الفوتوغرافية كما ظهرن في بعض الأفلام كخلفية لبعض المشاهد في الأسواق، ولكن يظل في البال الكثير مما يمكن أن يقال حولهن، نساء وهبن أعمارهن للعمل من أجل حياة أفضل وأجمل على الرغم من كل التعب والقسوة...

دائما ما كنت أتأمّل وجوههنّ الأليفة، الجميلة، الطيبة التي لوحتها الشمس، وغيرتها خطوط التجاعيد الغائرة التي رسمت عليها لوحة بليغة من التعب والإصرار وحبّ الحياة والقناعة والصبر.. يفترشن الأرصفة، والمحظوظة منهن من تجد ظل شجرة وارفة أو بناية عالية تستظل بها أو أي شيء يوفر لها ظلا يقيها حرارة الشمس اللاهبة أو برد الشتاء القارس.

عادة يفرشن أكياس الجنفاص البيضاء أو إيزارا قديما (بطانية) ليعرضن بضاعتهن البسيطة التي عادة ما تكون مكونة من المواد الآتية: أعواد الديرم ، والدارسين والقرنفل ونومي البصرة وخيوط الحفافة وحجر السبداج والحرمل والملح الخشن والأزرار والإبر وأبكار الخياطة والهيل، وقد يعرضن أكواما صغيرة من (رشّاد البر) وهو نوع من الخضرة يختلف عن الرشاد الذي نعرفه وينمو في البرية ويمتاز بطعمه الحريّف اللاذع ويقبل الناس عليه لأن موسمه قصير جدا ويقال إن له بعض الفوائد الصحية.

وفي أيام الحصار الاقتصادي كانت علبة المعجون حاضرة مع أكياس صغيرة توضع فيها ملعقة أو ملعقتان من المعجون لأنّ العائلة لم تكن قادرة على شراء علبة معجون كاملة!! وغيرها من المستلزمات التي تحتاجها المرأة، فهن مختصات بالأشياء النسائية فقط، وهنّ مخترعات هذا الأمر منذ عهود طويلة جدا، أي التخصّص للبيع للنساء فقط عادة يكون مكانهنّ قرب الأضرحة المقدسة أو الجوامع أو في مداخل الأسواق الكبيرة. 

أتذكّر أنني مرّة سألت أحداهن - وقد تخيلت إنّها تقيم في هذا المكان ولا تبرحه أبدا لأنني كلما ذهبت وجدتها جالسة - سألتها عن مكان نومها (فقالت ضاحكة ... هناك وأشارك إلى زاوية من الشارع العتيق )هؤلاء النسوة اللواتي عاركن الحياة بقوة وعزيمة عالية وانتصرن عليه، يبدأ يومهن الطويل من الصباح الباكر، تخرج مع خيوط الفجر الأولى، البضاعة، تكون إما في بيتها فتحملها معها على شكل (بقجة)، أو تكون مودعة عند أحد أهل المحلات القريبة وهذا هو المعتاد والشائع.  

تنظف مكانها من الأتربة والأوساخ وتفرش الأكياس، ثمّ تجلس بهدوء في المنتصف وتبدأ بترتيب أغراضها، تنفض الغبار... وتعيد حزم بعض الأغراض.. منهن من تنادي على بضاعتها وهن القلة وتكتفي الأغلبية منهن بالصمت وانتظار رزق الله .

في السنوات الأخيرة بدأت ظاهرة النساء الكادحات تختفي بسبب ارتفاع مستوى المعيشة إلى حد كبير وصار حضورهن محدود جدا.. لكن هن في الذاكرة باقيات نساء جميلات عشنّ من أجل العائلة ومن أجل لقمة خبز شريفة .

نساء لم يجدن فرصة لأي رفاهية، لكن وجدن الاحترام والتقدير عند كلّ من عرفهن .ولن يغيب عن بالي أبدا ذلك الحوار القصير والطريف الذي دار بيني وبين إحداهنّ، حول تحمل الحرّ والبرد، والكثير من الظروف المناخية القاسية التي يعرفها الجميع، قالت لي إنها مجبرة على العمل فلا معيل لها. ولديها أولاد وبنات في سن صغير وبعضهم في المدارس.. وكنت لحظتها أحمل كتبي، فأشارت للكتب، وقالت اهتمي بدراستك فالشهادة هي الضمان لك ولعائلتك في المستقبل .

وكانت تشتكي من الغبار كثيرا لأنّ عيونها متعبة ولكن لأنّ العمل الشريف هو الحل الوحيد لديها لذلك هي تحبّ عملها ومستعدة أن تظل تعمل حتى الرمق الأخير. فلا يمكن أن تجلس في البيت وتنتظر من يتصدق عليها .

أتذكر في صباح يوم بعيد جدا، خرجت للمدرسة مضطرة إذ كانت الأجواء عاصفة والغبار يتصاعد بقوة، والريح شديدة تحمل معها كل ما يمكن حمله من أوراق شجر جافة وأكياس نايلونية ممزقة، ولأنّ طريقي للمدرسة لابدّ أن يمرّ على رصيف البائعات، فقد توقعت إنهن اليوم في عطلة، بسبب حالة الطقس، لكن فوجئت بوجودهن، بعضهن وضعهن أوراق الكارتون المقوى، وبعضهن وضعن قماشا ليقيهنّ من الريح والغبار، كان الحوار هذه المرة مختلفا، فقد تساءلت مع نفسي من سيشتري في هذه الأجواء العاصفة، لكن الإصرار وحبّ العمل والحياة هومن جاء بهن إلى الشارع على الرغم من كلّ شيء .

مررت راكضة وسلمت.. قالت المرأة التي يبدو إنها تذكرتني... (سباعية أنت لا تعوفين الدراسة مهما كانت الظروف) فأسرعت الخطى نحو المدرسة وأنا أحمل وردا داخل روحي. على الرغم من كل الريح العاتية .

الآن اختلف شكل الأسواق، اختفت الملامح التي ألفناها والمناظر التي تعودناها وهذا هو الطبيعي، لأنّ الحياة تتطور ولا يمكن أن نقف في طريق تبدّلها وتغيّرها ولكن أتساءل فقط عن مصيرهن، نسوة الرصيف المكافحات هل وجدن باب رزق جديد؟... أم إنهن اعتزلن الحياة وأصبحن مجرّد شواهد في فتحات المقبرة الواسعة؟

بائعات الرصيف لوحة إنسانية مفعمة بالحياة، ستظل عالقة في خيال أجيال كثيرة وقد وثقتهن بعض اللوحات التشكيلة والصور الفوتوغرافية كما ظهرن في بعض الأفلام كخلفية لبعض المشاهد في الأسواق، ولكن يظل في البال الكثير مما يمكن أن يقال حولهن... نساء وهبن أعمارهن للعمل من أجل حياة أفضل وأجمل على الرغم من كل التعب والقسوة.

اضف تعليق