سعت الرواية الحداثية إلى أن تعكس فلسفة الحداثة التي تؤكد على تعقيد الحياة والوجود، كما حاولت التشجيع على التفكير العميق وإعادة النظر في المفاهيم التقليدية عن السرد والأدب، من خلال التعبير عن الواقع بأساليب جديدة تتجاوز النماذج التقليدية ومحاولة استلهام الأساطير والتاريخ لإعادة قراءة الحاضر وتأويله...

يواجه مصطلح (modernism) إشكالية دلالية لدى كثير من الباحثين العرب، إذ نجد أن ثمة ضبابيّة في استخدام المصطلح، وغالباً ما يعزى مثل هذا اللبس إلى اجتهادات المترجمين، بل إن هذه الإشكالية قد تتعدى الاستخدام العربي إلى الاستخدام الغربي وهذا ما نجده على سبيل المثال في كتاب "الحداثة وما بعد الحداثة" لبيتر بروكر ترجمة الدكتور عبد الوهاب علوب، بينما نجد الدكتور عبد الحميد شيحة يبرر ترجمته لمصطلح (modernism) بقوله: أجد من المناسب ترجمته[...] إلى المصدر الصناعي العربي "الحداثية" كونه يدل على اتجاه محدد، أو حركة معينة لها فلسفتها وأبعادها الثقافية، وذلك بغية التفرقة بينه وبين المصدر الاسمي modernity الذي تحسن ترجمته إلى نظيره العربي "الحداثة"، لأن الأخير لا يمثل حركة أو اتجاها بقدر ما يدل على فعل مطلق لا يناط بفلسفة معينة ولا يتقيد باتجاه محدد، بل يمكن أن تتخلل العصور الأدبية فترات من الحداثة من دون أن تتركز على تيار واحد أو تنتظمها حركة فلسفية ذات أبعاد ثقافية.

في حين نجد أن بيتر بروك يعرف مصطلح (modernity) بأنّه (المعاصرة) بينما يعرف (modernism) بأنها تعني الحداثة، أو هكذا ترجمها مترجم الكتاب، ويقول جان بودريار: إنّ "الحداثة ليست مفهومًا اجتماعيًا، ولا مفهومًا سياسيًا، ولا مفهومًا تاريخيًا بحتًا. إنها نمط مميز للحضارة، يتعارض مع نمط التقليد[...] ومن ثم فإنها ليس لها مفهوما قابلا للتحليل، ولا يوجد قوانين للحداثة، بل يوجد سمات لها. كذلك ليس لها نظرية، إنما هناك منطق وأيديولوجيا. وهي أخلاقية قانونية للتغيير، وهي تعارض الأخلاق القانونية للتقاليد، ولكنها تحمي نفسها أيضاً من التغيير الجذري،[...] ورغم ارتباط الحداثة بأزمة تاريخية وبنيوية، فإنها لا تشكل مع ذلك سوى أحد أعراضها. وهي لا تحلل هذه الأزمة، بل تعبر عنها بشكل غامض، في اندفاع مستمر. وهي تعمل كفكرة دافعة وكأيديولوجية رئيسية، فترفع من تناقضات التاريخ إلى مستوى تأثيرات الحضارة".

ولم يشكل مصطلح الحداثة إشكالية على الصعيد المفاهيمي فحسب، بل إن تحديد بدء تيار الحداثة هو أيضا يمثل إشكالية على الصعيد التاريخي، فمن يرى أنها تبدأ مع ظهور عصر الصناعة في أوروبا وتحديدًا مع اختراع غوتنبرغ للطابعة المتحركة وفقًا لموقع (الوكيبيديا)، بينما يرى آخرون أنّها ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر من خلال كتاب فرويد "تفسير الأحلام" وخاصة على صعيد الأدب والفنون.

غير أن مصطلح "الحداثة" ظهر في مقال لشارل بودلير نشر في صحيفة لو فيغارو عام 1863 بعنوان "رسام الحياة الحديثة"، وفيه يقول: "إنَّ الحداثة هي النصف العابر، الزائل، العرضي، للفن، والنصف الآخر هو الأبدي والثابت. لقد كانت هناك حداثة لكل رسام قديم؛ فمعظم الصور الجميلة التي بقيت لنا من العصور السابقة كانت ترتدي أزياء عصرها"، فهو يرى الحداثة تكمن في تجسيد الواقع المعاصر.

إن هذه التحولات الحداثويّة التي شهدتها أوروبا على مختلف الأصعدة لم تكن بعيدة عن الأدب فقد شهد الأدب بمختلف أشكاله تفاعلًا كبيرًا مع طروحات الحداثة، وظهرت العديد من الأسماء المهمة التي جسّدت تلك الأفكار عبر نتاجاتها في حقلي الشعر والرواية والتنظير النقدي. ومنهم على سبيل المثال "جيمس جويس، وعزرا باوند، وفوكنر، وت أس إليوت، وجوليا كرستيفا، وفرجينيا وولف"، وغيرهم من الأسماء المهمة.

وعلى صعيد الرواية تجسّدت الحداثة عبر مجموعة من التقنيات التي سعت إلى كسر الأنماط التقليدية في السرد وإعادة رسم وتعريف العلاقة بين القارئ والنص، ومن بين هذه التقنيات في: 

تيار الوعي: ويُظهر التدفق الداخلي للأفكار والمشاعر كما تجري في عقل الشخصيات، من دون ترتيب منطقي أو سرد خارجي. من الأمثلة البارزة على هذه التقنية روايتا جيمس جويس "عوليس" وفرجينيا وولف "إلى الفنار". وكذلك التعدد الصوتي: وهو تقديم أصوات متعددة داخل النص، حيث يكون لكل شخصية وجهة نظرها الخاصة وروايتها للأحداث، من دون هيمنة صوت واحد. يُعد دوستويفسكي من أبرز الرواد في هذا المجال.

وكسر التسلسل الزمني: حيث التخلي عن السرد الزمني المتتابع لصالح القفز بين الأزمنة والأحداث. هذا يعكس تعقيد الزمن البشري كما في روايات ويليام فوكنر.

 وأيضا التجريب اللغوي: استخدام لغة غير تقليدية، مثل اللعب بالكلمات، الجمل غير المكتملة، أو استخدام مستويات لغوية مختلفة داخل النص. ومنها رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي. 

والتناص: وهو دمج نصوص أخرى داخل الرواية، سواء عن طريق الإشارة إليها أو اقتباسها أو إعادة صياغتها، لإثراء المعنى وإضافة أبعاد جديدة. ومن نماذجها رواية "الغريب" لألبير كامو حيث تستلهم بشكل غير مباشر أفكار الفلسفة العبثية مع إشارات لنصوص دينية، ورواية "مئة عام من العزلة" في استخدامها للموروثات والأساطير الشعبية. وعربيًا راوية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ باستخدامها للرموز الدينية. وعراقيًا هناك العديد من الروايات ومنها على سبيل المثال "شبح نصفي" لمحمد خضير سلطان. 

والتفكيك والتشظي: وهو تفكيك النص إلى مشاهد وأحداث متقطعة وغير مترابطة ظاهرياً، مما يعكس فوضى العصر الحديث. ومن نماذجها رواية "الصخب والعنف" لوليام فوكنر، و"زمن الرواية" لجمال الغيطاني.

والسارد غير الموثوق به: وهو تقديم رواية من وجهة نظر شخصية لا يمكن الاعتماد عليها بالكامل، مما يُجبر القارئ على إعادة تفسير الأحداث. ومنها رواية "الحارس في حقل الشوفان"، حيث يكون السارد مراهق ويعاني من اضطرابات نفسية، مما يولد الشك لدى المتلقي بدقة روايته للأحداث.

والرمزية والغموض: بالاعتماد على الرموز والصور المجازية للتعبير عن المعاني العميقة، مع إبقاء بعض التفاصيل غامضة لتشجيع القارئ على التفسير. ومن نماذجها رواية "الطاعون" لألبير كامو، و"مدن الملح" لعبد الرحمن منيف.

الوعي بالذات: وهو النص الذي يعترف بأنه نص أو يدمج تأملات حول عملية الكتابة والسرد داخله. ومن نماذجها عراقيا رواية "قصر الثعلب" لإبراهيم سبتي. 

وكذلك التفاعل مع القارئ: وهو كسر الحاجز بين النص والقارئ من خلال إشراك القارئ في الأحداث أو طرح أسئلة مفتوحة من دون إجابات محددة. ومن نماذجها "لو أن مسافرا في ليلة شتاء" لإيتالو كالفينو.

ومن خلال هذه التقنيات سعت الرواية الحداثية إلى أن تعكس فلسفة الحداثة التي تؤكد على تعقيد الحياة والوجود، كما حاولت التشجيع على التفكير العميق وإعادة النظر في المفاهيم التقليدية عن السرد والأدب، من خلال التعبير عن الواقع بأساليب جديدة تتجاوز النماذج التقليدية ومحاولة استلهام الأساطير والتاريخ لإعادة قراءة الحاضر وتأويله.

اضف تعليق