لم يعد بوسع الاديب ان يكتب نصه بمعزل عن هذه المؤثرات، وفي الوقت نفسه لم يعد بوسعه ان يقرأ كل شيء، لان هذا فوق طاقته ووقته، اذن لابد من ان يتحصل على خلاصات لها، لكي ينطلق نصه من كيمياء ضرورية تلاحق زمننا المحتدم وانسانه المحاصر وسطه...

في حلقات النقاش اليومي للأدباء، في المقاهي او غيرها، تتكشف لبعضهم البعض ثقافاتهم وميولهم، فمن خلال الحوار الذي يتشعب عادة، تجد هناك من لديه القدرة على المواصلة وطرح المعلومات المختلفة وابداء الرأي في الامور التي يتم تناولها، بما يجعله في نظر زملائه ليس اديبا فقط وانما مثقفا ايضا. 

وفي المقابل من هو غير ذلك.. وعند هذه المسألة ونقصد ثقافة المبدع، توقف كثيرون وهم يقيّمون مبدعين او يحاكمون نتاجهم، فمن المعروف ان الابداع او الموهبة، تولد مع الانسان، فإذا ما توفرت له الفرصة لصقلهما والحرث في الاتجاه الذي يميل اليه، تراه قد توهج وقدّم ما يبهر الاخرين ويثير دهشتهم.. وفي حال لم يحالفه الحظ ويجد نفسه بين وسط جاهل ولم تتح له فرصة التعلّم، تضيع تلك الموهبة، او قل هكذا ضاعت مواهب كثيرة في ازمنة التخلف والضياع التي عاشها اهلنا من قبل. 

فثقافة المبدع العامة تعد مسألة حاسمة هنا، لكي يكون نصه اكثر عمقا ورؤاه اكثر بعدا، وهذا لايتحصل من خلال قراءة نمطية، كأن يكون اديبا ولايقرأ سوى الأدب او فنانا ولايهتم بغير ما يكتب عن الفن وهكذا .. فالمبدع هنا يحاصر موهبته ويحجّم امكانياته بحرمانها من مصادر التغذية المختلفة التي تخصب عقله وتجعله يرى الحياة بشكل اوسع واعمق. 

الاديب الذي لايقرأ سوى الاعمال الادبية ويسخّر كل وقته لذلك، يبقى بعيدا عن فهم الحياة التي تتجدد معطياتها باستمرار، ومن ثم يجد نفسه عاجزا عن سبر اغوار شخصياته او معالجة مشاكلها نصيا، وفقا لما تفرزه المعطيات الجديدة، كون النشاطات الانسانية والعلمية تشابكت وتداخلت في العقود الاخيرة بشكل كبير داخل حياة الناس اليومية بمختلف مستوياتهم، وان عدم مواكبة هذا الواقع يعني ان الاديب عزل نفسه عن الحياة التي يكتب عنها!

 الاطلاع على العلوم والمعارف المختلفة، ولو بشكل نسبي، او فهم خلاصات عنها، يمثل الكيمياء المطلوبة لإنتاج نص يستدعي الواقع برؤية علمية وليست عفوية، فالأديب قبل خمسة عقود مثلا، لم يتعامل مع تقنيات التواصل والاتصال الحديثة التي غيّرت امزجة الناس ونمط سلوكهم وطبيعة عيشهم ومشاكلهم التي هي مادة الاديب عادة، فأديب الامس كان يقرأ الفلسفة والفكر والسياسة والدين والميثولوجيا والتاريخ وغيرها، وتجد هذه الثقافة مبثوثة في نصه، ولكن نظرة الناس لكل هذه العلوم والمعارف المتعددة، اختلفت عما كانت عليه سابقا، او لنقل ان قراءتها باتت بعين مختلفة، فالتاريخ والدين والنظريات الفلسفية التي كانت تعامل بوصفها مسلمات، باتت اليوم موضع نقاش وتساؤلات تطرح علنا من خلال منافذ الميديا التي اقتحمت حياة الفرد وتلاحقه بجديدها في كل مكان!

لم يعد بوسع الاديب ان يكتب نصه بمعزل عن هذه المؤثرات، وفي الوقت نفسه لم يعد بوسعه ان يقرأ كل شيء، لان هذا فوق طاقته ووقته، اذن لابد من ان يتحصل على خلاصات لها، لكي ينطلق نصه من كيمياء ضرورية تلاحق زمننا المحتدم وانسانه المحاصر وسطه!

اضف تعليق