ليس من الصواب - كما أرى- في نظرتنا للأشياء، إطلاق حكم جازم بقيمتها المادية والمعنوية، إلا إذا كان ذلك محصورا ومحددا بإطار المُحَكِّم ذاته وبعلاقتهما مع بعض، بمعنى أن تلك القيمة المكتشفة أو المرئية هي الرابط بين مكتشف تلك القيمة والشيء الذي تواجدت فيه، حتى لو اتفقت نظرة آخرين مع ذلك الحكم...
ليس من الصواب - كما أرى- في نظرتنا للأشياء، إطلاق حكم جازم بقيمتها المادية والمعنوية، إلا إذا كان ذلك محصورا ومحددا بإطار المُحَكِّم ذاته وبعلاقتهما مع بعض، بمعنى أن تلك القيمة المكتشفة أو المرئية هي الرابط بين مكتشف تلك القيمة والشيء الذي تواجدت فيه، حتى لو اتفقت نظرة آخرين مع ذلك الحكم فلن يضعه ذلك في إطار العمومية، بل في إطار الواجدين لتلك القيمة، وحتى تلك التي عُرّفت بأنها اشتراطات عامة تحدد قيمة الأشياء لا يمكن اعتبارها جازمة الصحة إلا بزمنها وبيئتها وأثرها النفعي والجمالي في مستخدمها، ووفقا لهذا المنظور يمكن لنا أن نتحدث عن الفن والأدب بعموميتهما.
فلكل منا نظرته وحكمه الخاص على طبيعة الخطاب وقيمته الفنية والفكرية والجمالية في النص الإبداعي، وليس لأحد- كما أرى- أن يفترض أن تحليله وطبيعة تلقيه وتفاعله مع ذلك النص الإبداعي هي الحكم المطلق والفهم الحقيقي له، وحتى منتج النص ذاته لا يمكن أن يحدد ما يحتويه ذلك النص من قيم فكرية وجمالية وفنية برغم قصديته لإيجادها أو سعيه لخلقها وتضمينها في النص؛ لأن كل نص يبقى منفتحا على قراءات متعددة الآفاق ومتشعبة الأفكار ومتنوعة الأثر الجمالي.
وبناء على ما تقدم يمكن لنا أن نقول إن قراءتنا للشعر وغيره لا تتيح لنا أن نقرر ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، أو ما هو صحيح أو غير صحيح، إن حكما كهذا لا يعبر إلا عن نظرة سطحية تعكس بساطة تفكير صاحبها، لأن الحكم على الأشياء بما تبدو هو حكم لا يخلو من السذاجة أو الخمول الفكري، باعتبار أن كل شيء مدون هو كائن له خصوصياته وظاهره وباطنه. فنحن عندما نرى شجرة ونقول (هذه شجرة) إنما أطلقنا حكما بدائيا اعتمد على الصورة الظاهرية للمرئي.
أما (العالم المختص) فإنه يحلل الشجرة إلى مكوناتها الأساسية، بينما نجد آخر يبحث في ما تراكم فوقها مما لم نستطع رؤيته بعيوننا المجردة، إذ من المحتمل أن تحوي هذه الشجرة كائنات أخرى لم نتمكن من رؤيتها، إما لأنها كانت بعيدة عن مجال رؤيتنا، أو لأنها كائنات مجهرية لا ترى بالعين المجردة، ورغم هذا التباين الواضح إلا أن كل تلك الكشوفات قابلة للصحة وفق الحكم الاحتمالي.
ووفقا لذلك فإن على الناظر المتفحص أن يضع في ذهنه احتمالات أخرى لكل ما يراه ظاهرا, لا أن يطلق حكما نهائيا من دون دليل واضح. وحتى مع احتمالية وجود الدليل على صحة حكمه، فربما كانت وسائله الآنية المستخدمة غير قادرة على النفاذ إلى أشياء أخرى مختبئة.
وبناء على ما تقدم فإننا نرى أن موروثنا ومنجزنا الحالي أدبا كان أو تاريخا، يجب أن يخضع إلى “النظرية أو النظرة الاحتمالية” التي من خلالها سنتمكن من تجنب الرضوخ الساذج للمرويات أو التحليلات لهذا الموروث، إذ إن كل مهتم “باحثا كان أو ناقدا” ينظر إلى الحدث أو النص الذي أمامه بمنظاره الخاص، وقد يكون هذا المنظار ملوثا بالكثير من الشوائب التي تعيق رؤيته الكاملة أو الشاملة، وكذلك فإن القول باعتبارها الحقيقة الجازمة مخاطرة لا ينبغي الوقوع فيها، بل لا يصح اليقين بالوصول إليها؛ إذ ليست هناك حقيقة كاملة وشاملة مهما تبحرنا وتعمقنا في النظر في تحليل النص.
وإذا كانت الجملة العربية تحتمل عدة حالات إعرابية كاشفة عن جملة معان لها وفقا لكل حالة إعرابية، فإن الدلالة الرمزية، أو التركيب البلاغي، أو المعنى المتضمن للنص الأدبي لا شك ينطوي على وجوه ودلالات متعددة وفقا لرؤية القارئ، وأدواته التحليلية، ومخزونه المعرفي، وخبرته الفنية والعلمية والحياتية.
إن قراءة النص غالبا ما تخضع لاعتبارات زمانية ومكانية بالإضافة إلى الموضوعية والفنية، فما هو جميل في زمن معين أو مكان معين قد يصبح قبيحا في زمن آخر على الصعيد الموضوعي في الأقل، إذ غالبا ما تخضع الموضوعات التي تعالجها النصوص لاعتبارات مختلفة دينية وسياسية واجتماعية، تصادر قيمة النص الفنية، وربما تحجب الرؤية عن كشف تلك القيمة الجمالية التي انطوى عليها النص، وربما يسهم نوع من الأنساق المضمرة لدى “القارئ الكاشف” في حجب ما ينطوي عليه النص من جماليات، ولنأخذ مثالا على تعدد القراءات بما تنقله لنا الروايات من موقف النابغة الذبياني من قصيدة حسان بن ثابت عندما جلس محكما في سوق عكاظ، وقوله فيها: “لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى/ وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما/ وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَابني مُحَـــرِّقٍ/ فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِنا اِبنَما”.
فقال له النابغة: “أنت شاعر, ولكنك أقللت جفانك وأسيافك, وفخرت بمن ولدت, ولم تفخر بمن ولدك”.
بينما كانت قراءة قدامة بن جعفر للبيت الأول تختلف عن قراءة النابغة، فقال: “إن حسان لم يرد أن يجعل الجفان بيضا، وإنما أراد المشهورات، فيقال يوم أغر أي يوم مشهور، وأما قوله يلمعن بالضحى وليس يلمعن بالدجى فلا يلمع في الضحى إلا ساطع الضوء، بينما أيسر البصيص يلمع في الدجى، وأما قوله جرين خير من يقطرن لأن الجري أكثر من القطر فلم يرد حسان الكثرة وإنما أراد ما يلفظ به الناس، فيقال عن البطل الشجاع: سيفه يقطر دما، وليس يجري دما”، وما نراه أن يقطرن أفضل من يجرين ليس من باب ما يلفظ به الناس كما ذكر قدامه، وإنما الجريان يكون من المنبع، والسيف ليس منبعا، فهو يقطر لتأثره بإصابته للمنبع.
على أن لكلا القراءتين جمهور يدافع عن وجهة نظر صاحبها، وفق مبدأ اختلاف الرؤية، وكل قراءة تستند إلى مبررات تسند حجتها، فهاتان القراءتان استندتا إلى دلالات المفردات، وهو ما كان سائدا في النقد القديم، بينما اتخذ النقد الحديث منحى آخر في تحليل النص وبيان جمالياته أو سلبياته، ولكن تبقى الاحتمالية هي الموجه الأمثل لمعطيات النص، فليس ثمة رؤية قطعية تحد من انفتاح دلالات النص، وإذا ما أردنا أن نتوسع في الأمثلة فسنحتاج إلى مجال أكثر سعة مما هو متاح هنا، ولعل في القول المنسوب إلى الإمام الشافعي خير ضابطة يمكن أن تشكل منارا يصلح للسير وفق هديه إذ يقول: “ رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
اضف تعليق