إن حق المرأة نراه في سيرة الصديقة الزهراء بحجم كبير يتجاوز المصالح الشخصية من مال او وظيفة او أي شيء آخر تفكر به الفتاة او المرأة اليوم، لأن المصالح الكبيرة المتعلقة بالأمة وبالمجتمع هو الذي يضمن حياة الأمان والسعادة لها...
طُرقت الباب بعنف شديد، وكان في الدار علي وفاطمة، فسمعا صراخاً مُخلاً بالآداب أن "أخرج يا علي وبايع..."!
نهضت الصديقة الزهراء من مكانها باتجاه الباب فيما بقي أمير المؤمنين في مكانه، لتجيب الصارخ بأن؛ ماذا تريد؟! فقال الرجل الذي أصبح فيما بعد خليفة للمسلمين: ما بال ابن عمّك جالساً لا يجيبنا؟! فنهرته الزهراء وأمرته بالانصراف من أمام الدار التي كان يقف عند عتبتها رسول الله، ويسلم على أهلها ويستأذن بالدخول في الأيام الخوالي.
ولكن! حصل ما حصل.
كان بإمكان أمير المؤمنين أن يهبّ مسرعاً الى الباب ويتصدّى لمطالب القوم، وربما يزجرهم ويجعلهم يولون الدُبر، بيد أن حكمة الصديقة الزهراء اقتضت تدخلها في الوقت المناسب للدفاع عن قضية كبرى من شأنها أن ترسم خارطة طريق للعالم، وليس فقط لنفسها كامرأة تطالب بحقوقها المالية وحقوق زوجها السياسية.
الدفاع عن الحقوق السياسية
هذه الحقوق ليست بالمعنى المتداول اليوم ضمن إطار ممارسات لافراد المجتمع لتحقيق مصالحهم، إنما القضية قيادة الأمة وإدارة شؤونها المادية والمعنوية على نطاق عابر للحدود والانتماءات العنصرية والقومية، فقد كان رسول الله يقود أمة على رقعة جغرافية لا تُحد، ويقود مجتمع قابل للتوسع في أرجاء العالم.
ومصداق هذا في كلمات الصديقة الزهراء في تلك الخطبة المدوية بالمسجد النبوي وأمام مئات الحاضرين آنذاك، فهي لم تدافع عن حق زوجها في منصب سياسي بقدر ما ذكّرت المسلمين في تلك البرهة الزمنية، والذكرى نافذة الى اليوم، والى يوم القيامة، بأن الحكم ينبغي ان يكون امتداداً لحكم رسول الله؛ "فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ وَسَمَلَ جِلبْابُ الدّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوِينِ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلِين".
ولأن القضية تتعلق بقيادة ربانية فان المتربص بها قوة ليست تقليدية، إنها قوة ابليس الذي أقسم بعزّة الله –تعالى- {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ}، والاستثناء هنا له دلالة واضحة تدلنا على المناطق الرخوة في الكيان الاسلامي المعرضة للاختراق ثم الانحراف، وقد عبّرت الصديقة الطاهرة عن هذا الواقع المرير بأبلغ ما يكون، وأكثر ما يثير الشجن بأن "وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً".
دافعت الصديقة الزهراء عن الحق الشرعي والقانوني وهي على فراش الموت عندما توافد الناس عليها لعيادتها بعد فاجعة الهجوم على باب الدار وتعرضها لكسور في بدنها وإسقاط حملها، ومما قالته لجماعة من نساء المهاجرين والانصار عُدنها في مرضها، وسألنها: كيف أصبحت من علتكِ يا ابنة رسول الله؟ فقالت: فقالت: "أصبحت والله عائفة لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشئنهم بعد أن سبرتهم فقبحاً لفلول الحد وخور القنا وخطل الرأي وبئسما قدمت لهم أنفسهم إن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون"، ثم أردفت: "وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا والله منه نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته"، فقد بينت لهم من يكون أمير المؤمنين، وكشفت عن كوامن الحقد والحسد عليه، فيما حاول رجال آخرون وفدوا عليها أن يعتذروا ويبرروا موقفهم المتخاذل والمخزي بما هو أقبح من الذنب، بأن "لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يُبرَم العهد ويُحكَم العقد لما عدلنا إلى غيره"! فردّت عليهم بحزم: "إليكم عنّي، فلا عُذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم"، وهم يعلمون أن أمير المؤمنين كان منشغلاً بتجهيز جثمان رسول الله، فيما كان زعماء الانقلاب منشغلين بتدبير المؤامرة للاستيلاء على الحكم وانتزاع القيادة من اصحابها الشرعيين.
المطالبة بالإرث أم الدفاع عن القانون
تؤكد المصادر التاريخية أن مزرعة فدك كانت تحت ملكية الصديقة الزهراء في حياة أبيها رسول الله الذي أعطاها إياها بعنوان "نِحْلة"، وتعني العطاء دون عوض وعن طيب نفس –كما جاء في مصادر اللغة العربية-، وقضية الأرض او المزرعة تعود الى إحدى الغزوات لقلاع اليهود وانتهت الغزوة دون قتال، والقانون الإلهي يلزم بأن تكون غنيمة هذا النوع من المعركة للنبي فقط دون غيره بصريح الآية القرآنية: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وهذا الى جانب قانون الإرث الواضح في القرآن الكريم لجميع البشر بمن فيهم الانبياء، بينما حاول الانقلابيون تزييف الحقائق والكذب على رسول الله بحديث يناقض القرآن الكريم: "بأنا معاشر الانبياء لا نورث"! والقرآن الكريم نفسه يقول: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}، والآية الاخرى المتعلقة بنبي الله زكريا إذ طلب من الله الذرية: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}، وهو ذكرت به الصديقة الزهراء عامة المسلمين لعلهم يعودون الى رشدهم.
وقد اشرنا في مقال سابق الى حقيقة هامة في حياة الصديقة الزهراء، بأنها قبل وبعد تملكها أرض فدك بذلك الوارد المالي الهائل، كونها ارض زراعية معطاءة، بقيت متمسكة بحياة الزهد والكفاف، فهي سبقت ادعاءات الانقلابيين الكاذبة بأنهم ينتزعون ارض فدك منها ليذهب ريعها الى مصالح المسلمين العامة، في عطاءاتها السخية للفقراء والمحتاجين في الفترة التي كان فيها رسول الله على قيد الحياة، الى جانب دعمها لشؤون الدولة الاسلامية، وتحديداً المجهود الحربي الذي يدعيه الحاكم الأول في ردّه البائس على الصديقة الزهراء بأن "وَقَدْ جَعَلْنا ما حاوَلْتِهِ فِي الكُراعِ وَالسِّلاحِ يُقابِلُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُجاهِدُونَ الْكُفّارَ، وَيُجالِدُونَ الْمَرَدَةَ ثُمَّ الْفُجّارَ".
إن حق المرأة نراه في سيرة الصديقة الزهراء بحجم كبير يتجاوز المصالح الشخصية من مال او وظيفة او أي شيء آخر تفكر به الفتاة او المرأة اليوم، لأن المصالح الكبيرة المتعلقة بالأمة وبالمجتمع هو الذي يضمن حياة الأمان والسعادة لها عندما تكون في أجواء القانون والشريعة والقيم الاخلاقية والانسانية، وإلا ما فائدة ان تحصل على كل شيء، بينما لا شيء من تلكم النظم والقواعد في حياة الامة؟ فهي ستبقى في دوامة الجري للحفاظ على ما تحصل عليه من السرقة والضياع في غابة الحياة المادية.
اضف تعليق