كثيراً ما يعاب على النقاد كتابتهم عن مجموعة شعرية لشاعر أو رواية لروائي أو مجموعة قصصيَّة لقاص لا يحظى بشهرة واسعة، بغض النظر عما إذا كان نتاجه جيداً أم رديئاً، مع أن ذلك يعد علامة صحيّة بالتعريف بالأدباء البعيدين أو المبعدين عن دائرة الضوء...

كثيراً ما يعاب على النقاد كتابتهم عن مجموعة شعرية لشاعر أو رواية لروائي أو مجموعة قصصيَّة لقاص لا يحظى بشهرة واسعة، بغض النظر عما إذا كان نتاجه جيداً أم رديئاً، مع أن ذلك يعد علامة صحيّة بالتعريف بالأدباء البعيدين أو المبعدين عن دائرة الضوء، سواء كان ذلك الإبعاد أو الابتعاد ناتجا عن كسل ذلك الأديب، أم قلة معرفته بالعملية التسويقية، أم محدودية علاقاته الاجتماعية، أم عن إهمال أو تجاهل قصدي من المؤسسات المعنية بالأدب والإعلام، ومن المؤكد أن صحية عملية تعريف الناقد بأمثال هؤلاء الأدباء يجب أن تكون مبنية على أساس نقد حيادي ينوه بالرديء مثلما يبرز جماليات المنتج الإبداعي.

بيد أنّنا في الغالب نجد أن الناقد يتهرّب حياءً من إبراز عيوب المنتج الذي يكتب عنه، فيعمد إلى الحديث عمّا فيه من جماليات فقط، من دون أن يشير إلى مواطن الضعف والرداءة، والحديث هنا لا يقتصر على المقالات أو الدراسات الموسّعة، بل قد يشمل تلك التعليقات التي تجري على النصوص المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة ممن يمتلكون رؤى نقديّة ووعيا قرائيا، فتعليقات أمثال هؤلاء قد تشكل عملية خداع للمتلقين العاطفيين أو المتعاطفين. وقد يوصف مثل هذا الفعل (الكتابة النقدية أو التعليق) بأنّه نفاق أو مجاملة على أخف الأحكام، إلا أني أراه هروبا مشروعا ومبررا لسبب بسيط؛ هو أننا رغم ما يوصف به عصرنا: بأنّه عصر حرية الرأي وتقبّل الآخر، إلا أننا في الحقيقة نبدو أكثر تزمتا في الإصرار على آرائنا، ورفض أي انتقاد يوجه إلى ما ننتجه أو نبديه من رأي، ونعتبر أن هذا النقد هو انتقاد لذواتنا، وليس نقدا ورؤية قرائيّة لمنتجنا الإبداعي أو الفكري الذي نطرحه للآخرين، مع أن طرحنا هذا المنتج للآخرين هو بمثابة عقد بين المخاطِب (بكسر الطاء) والمخاطَب (بفتح الطاء)، قد يقبل ببنوده كلها، وقد يرفضها كلها، أو يرفض بعضا منها، وليس من حق الطرف الأول أن يجبر الطرف الثاني بالرضا والتسليم بما سطره من بنود، وليس من حقه أن يمتعض أو يغضب مما يبديه من ملاحظات عن مجمل العقد أو بعض بنوده. 

 إنَّ الكتابة النقديَّة عن منتج إبداعي بغض النظر عمّا تظهره من إيجابيات أو سلبيات، هي ليست سوى رؤية قرائيّة تظهر وجهة نظر ذلك الناقد، وما أرشدته إليه أدواته النقديّة، وقد لا تكشف حقيقة النص وما ينطوي عليه من جودة أو رداءة.

ومثل هذا الاختلاف في الرؤى القرائيّة للنصوص الإبداعيّة لا ينحصر بزمن معين وإنما هو يسير بخطٍ موازٍ للعملية الإبداعية، فمن غير الممكن أن تتوافق جميع الأذواق والرؤى، مهما بلغت جودة النص أو عظمة منتجه، في الأبيات الثلاث الشهيرة والتي اختُلف في نسبتها، والتي يقول فيها شاعرها:

    فلما قضينا من منىً كلَّ حاجةٍ... ومَسَّحَ بالأركانِ من هو ماسحُ

نجد أن هناك رأيين مختلفين الأول يضعها في "ضرب ما جاد لفظه وخلا من المعنى" وهو رأي ابن قتيبة وتابعه عليه جملة من النقاد منهم أسامة بن منقذ والعسكري، بينما يرى عبد القاهر الجرجاني أنّها "مما حسن لفظا ومعنى" وتبعه على ذلك أيضا جملة من النقاد، وهذا الخلاف بين الرأيين لا يخل بالقراءتين ولا يصوّب قراءة على قراءة إلا وفق قناعة المتلقي بمنهجيّة ورؤية كل ناقد وحجته في تقديم قراءته، ومدى قدرته على إقناع المتلقي بها. كما لم تخلُ هاتان القراءتان بشاعرية صاحب الأبيات ولا بقدراته الإبداعيّة، أيا كان قائلها سواء كان كثير عزة أو ابن الطثرية، فكلاهما له مكانته المرموقة في الأدب العربي.

 ومن الوهم تصور أو تصوير أنّ كل منتج الشاعر أو السارد بذات المستوى الفني مهما كانت شهرة ذلك المبدع أو مكانته، وقد لا نعدم أن نجد بعض المثالب في نصوصه مهما حرص على تجنّبها، وهو أمر طبيعي فلا يوجد كمالٌ في ما ينتجه العقل البشري، لكن ما يصنع العظماء هو كثرة الجيد وشح الرديء، وليس انتفاءه، وتأسيساً على هذا المبدأ، نرى أن عدم تقبل آراء الآخرين في ما ننتجه من إبداع شعرا أو سردا أو نقدا هو حالة مرضية، وتقبّل آراء الآخرين التي نختلف معها ليس إقرارا بصحتها أو تخلياً عن حق الدفاع عن وجهة نظرنا أو منتجنا الإبداعي، وإنما هو تساوق مع مبدأ تعدد الأذواق والرؤى.

إنَّ الذين يؤاخذون النقاد على ما يكتبونه عن شاعر أو سارد ما؛ لأنّهم يرون أن منتج هذا الشاعر أو السارد لا يستحق القراءة لضعف يفترضونه فيه وفقاً لرؤيتهم، قد تكون متأتية من حكم ذوقي أو خلاف شخصي، إنّما هي عملية إملائيَّة وانحراف عن العرف أو الخلق الأدبي، فليس لأحد أن يفرض ذائقته أو متبنياته بمختلف أشكالها على الآخرين، بل من حق أولئك أن يقدموا رؤيتهم تجاه ذلك النتاج وفق منهجيّة نقد النقد التي تلتزم بمبدأ احترام الاختلاف في الرؤى والقراءات، وليس لهم أن يسفّهوا تلك القراءات أو يحرّفوا أغراضها ودوافعها أو يتهموا كتابها بالقصور المعرفي. 

ونحن هنا لا ننكر خطورة تجميل القبح، بل إنَّ عملية تجميله أخطر من انتاجه، وهذا أمر لا يُختلف فيه، غير أنَّ الاختلاف يكمن في تحديد معايير القبح في المنتج الإبداعي، وهو أمر للذائقة فيه تحكّم كبير خاصة في غياب أو غموض أو زئبقيّة المعيار التقني. 

 ولعلَّ أوضح ما يمكن أن نصفه بالخطورة في الكتابة النقديّة، هو ذلك المتمثل بما يقدمه النقد الأكاديمي عبر تلك الدراسات التي تتخذ من المنتج الرديء بتأثير العلاقات الخاصة أو مؤثرات أخرى مجالا لتطبيقاتها في الرسائل والأطاريح من دون الاهتمام برداءة المنتج أو جودته (مع فرضية امكانية تحقق الحكم التقييمي)، مركزة اهتمامها على الجوانب التقنية والسياقية والسوسيوثقافية وغيرها مما لا يشكل جزءا أساسيا في تكاملية العمل الفني رؤية وبناءً، وهو ما يمكن أن يقدم صورة خادعة للقراء والطلبة بأهمية أو جودة تلك النتاجات.

اضف تعليق