أيهما أقرب الى الواقع وأكثر فائدة للإنسان؛ العقل أم العاطفة؟ من المسؤول أولاً عن تجسيد القيم الدينية والأخلاقية؛ القيادة (العلماء والمثقفين) أم القاعدة (الجماهير)؟ لماذا يترحم الناس على الديكتاتور والطاغية الدموي بعد الثورة عليه والاطاحة به، والتبرؤ من التجربة الديمقراطية بما فيها من حرية ونعيم؟!...

كلما اتسعت مساحة التساؤلات والتناقضات أمام الناس ضاق في أعينهم السبيل الى الإجابة، فالجميع يريد الوصول لما يُطفئ ظمئه من المعارف الدالة الى الحلول والبدائل، فلا صبر لأحد على تحمل وطأة الازمات في السياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع وحتى في الدين، فإن لم يحصل هو على شيء، يدفعه حب الظهور والتفوق لنسج تحليلات او تكهنات من وحي الخيال، او ربما من قطع فسيفسائية متناثرة يأمل في تصفيفها ليوهم نفسه بانها صورة للحقيقة، ولكن دون جدوى، لأن الأمر يحتاج الى بحث في الخلفيات والجذور، واستجلاء جملة من العوامل المؤثرة في ظهور المساوئ على الساحة. 

أيهما أقرب الى الواقع وأكثر فائدة للإنسان؛ العقل أم العاطفة؟ من المسؤول أولاً عن تجسيد القيم الدينية والأخلاقية؛ القيادة (العلماء والمثقفين) أم القاعدة (الجماهير)؟ لماذا يترحم الناس على الديكتاتور والطاغية الدموي بعد الثورة عليه والاطاحة به، والتبرؤ من التجربة الديمقراطية بما فيها من حرية ونعيم؟! ولماذا ينتعش الفساد والمفسدين في ظروف الحروب المقدسة للدفاع عن الأوطان والأعراض والقيم السامية؟! 

هذه نماذج من جملة أسئلة حائرة تدور في أذهان المواطن العادي–مع تحفظي على لفظة العادي- وايضاً؛ الشريحة المثقفة الغنية بالرصيد الفكري والثقافي والمعرفي، وبآليات التفكير والعمل برؤية شمولية، فان طريقة تعاملهم مع كل هذه المنغّصات التي يشتركون في آثارها الظاهرية السيئة مع سائر ابناء المجتمع، يفترض أن تختلف، وتتميز بما يتناسب و مستوى فهمهم، ثم مسؤوليتهم و دورهم في الساحة. 

دور الوسيط 

العلماء الذين كتبوا في مباحث القيادة وصفوا للشريحة المثقفة دور الوسيط في الهرم القيادي بين قمة القيادة؛ سواءً الدينية منها او السياسية، وبين القاعدة الجماهيرية، تأخذ من هذا وتعطي لذاك، صعوداً ونزولا، وهو دور محوري يكتسب أهميته من مسيرة العمل على الصعيدين؛ التنموي (الانساني)، والرسالي (الديني) لحل ما يعترض من المشاكل والازمات، من جهة؛ والتطلع الى آفاق التطور من جهة أخرى، و أبرز هذه المشاكل؛ صدور أخطاء من القيادة ومن الجماهير في هذه المسيرة. 

الشريحة المثقفة تشبه الى حدٍ ما المؤسسات الرقابية في الأنظمة الديمقراطية، تطالب دائماً بأن يكون كل شيء في مكانه الصحيح، علماً أنها معرضة هي الأخرى للخطأ والانحراف وتكون مسائلة أمام القيادة والجماهير على حد سواء، ولهذا حديث مستقل نتركه لمجاله، إنما حديثنا عن المثقف تحديداً لحاجتنا الماسّة اليه هذه الأيام، وما الذي يحتاجه ليؤدي دوره الرسالي والحضاري بين افراد مجتمعه وأمته، وهي التفاتات ألتقطها من وحي الواقع الذي نعيشه، وما يرشح من أفكار ومواقف تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت:

1- الصبر  

بهدف إدارة الساحة المتضررة من إفرازات الأخطاء، وليس الصبر للانحناء والقبول بالخطأ.

فمن منطلق النزعة الإنسانية، يكون الدافع قوياً لإدانة الخطأ والمخطئين، بيد أن الرؤية البعيدة لها رأي آخر، لأن المطلوب ليس معالجة آنية للموقف، وإنما المعالجة الجذرية بما ينفع لقادم الأيام، وربما يكون التعامل الذكي مع الأخطاء درساً بليغاً للآخرين في اللحظة الراهنة، بل وللأجيال القادمة، لتجنب ارتكاب الخطأ، كما كان يفعل الأئمة المعصومون مع من يوجه لهم السباب والشتائم، او حتى ينصب لهم العداء، فكانوا يتعاملون مع هذا الخطأ الكبير بصبر أكبر ليتحول خطأهم الى فرصة للتغيير ومراجعة الحسابات، والأهم من هذا؛ اكتشاف خيوط التضليل والتغرير المرتبطة بالجبهة المقابلة، متمثلين في تلك الأيام بالدولة الأموية والعباسية، وفي زماننا الحاضر بمؤسسات إعلامية وثقافية، وجهات حكومية، وأجهزة مخابرات، وتيارات فكرية، كل هؤلاء لهم أهداف من وراء إثارة الفتن والاضطرابات الذهنية والعقدية والأخلاقية من خلال إشاعة الخطأ بمختلف اشكاله، وجعله حالة طبيعية في الحياة اليومية.

التسرّع في إصدار الاحكام، او الدعوة لمساندة هذا أو القدح بذاك بنية مواجهة مشكلة معينة، ربما يواكب الحدث ويغذي المخاطبين بالحماس لاتخاذ الموقف المطلوب، ولكن ماذا لو اتضح أن الشخص المستحق للمساندة ذو خلفية غير حسنة، فهل يجب الاستمرار بترميزه واتخاذه الشخصية المناصرة والايجابية؟! 

2- تجاوز الذات

وهو مطلب يتعارض مع الرؤية المستحدثة في الوقت الحاضر لبناء الشخصية من خلال تنمية الذات و رعايتها والتعامل معها بلطف، وتجنب الجَلد وانتقاد الذات في معظم الأحيان، وهو ما يفيد مرحلة الشباب، وقبلها المراهقة لحساسيتها من الناحية النفسية، حتى في المباحث التربوية ثمة توصية برعاية هذا الجانب في الأبناء، بينما عند كبار القوم من ذوي الثقافة الواسعة والوعي العميق يكون الوقوف خارج حدود الرأي الشخصي من لوازم من ينشد التأثير على الواقع بغية تغييره، بما يُسمى بـ "الرؤية الموضوعية" المسنودة بالأدلة والبراهين، والتطابق مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الناس.

في هذه الأسطر القليلة لا أجدني جديراً بنصح وتوجيه من هم أفضل منّي، إنما المقصود تقويم حالة النقد التي نحتاجها بشدة لإصلاح الأمور على مختلف الأصعدة، من أصغر ظاهرة خاطئة في الشارع، الى أكبر جريمة فساد في الدولة، وعندما نلاحظ عدم تفاعل الجماهير مع ما يكتب وينشر من نقد او اعتراض، او حتى أفكار إصلاحية، فان مردّها الى لغة الخطاب غير المتوازن وغير الموضوعي، والتعكّز على الإثارة وتحقيق غايات شخصية مثل؛ الشهرة والمقبولية على صفحات التواصل الاجتماعي كشخصية إعلامية او ثقافية حريصة على مصالح الناس من عبث الفاسدين من خلال الفضح والقدح باستخدام أجمل أدوات اللغة، من تفخيم، واستعارة، وبلاغة، وما الى ذلك مما يُمتع القارئ ويفرج عن همومه. 

نعم؛ في عهود الديكتاتورية والقمع والظلم قبل أربعين وخمسين عاماً، كان المثقف بعلمه وأدبه وخطابته وكتابته يمثل ضمير المجتمع والأمة والصوت الشجاع بوجه السلطان الجائر، فكانت أفكاره ومؤلفاته وقصائده يتلقفها الناس، ويحرصون على اقتنائها سراً وعلانية مهما كان الثمن، وشهدوا حجم التضحيات الجسام التي قدموها على طريق الأهداف السامية، ولكن! في العهد الجديد ارتقى الناس –بنسبة كبيرة منهم- بوعيهم وفهمهم للأمور، و اصبحوا يبحثون عن الجديد من الأفكار البناءة المتطلعة الى المستقبل، لا التي تشتر الأزمات والعثرات لهذا او ذاك. 

وفي مقال سابق أشرت الى خطورة تجاوز الناس لشريحة المثقفين، ومضيّهم نحو مصادر جديدة للوعي والثقافة، لاسيما مع "الإباحية العالمية للأفكار"، إن جاز لنا التعبير.

واعتقد أن هذا المآل الخطير يدفع بالبعض –ولا أقول جميع المثقفين- للانحراف نحو الديكتاتورية الفكرية بينما هو يدّعي السير في الطريق نحو الديمقراطية، فهو يدعو الناس لعدم الانصياع للاستبداد الديمقراطي في الأنظمة السياسية الجديدة، والتصدّي لسياسيي الصدفة والباحثين عن المال والجاه، بيد أنه في نفس الوقت يمارس الاستبداد الفكري والثقافي متعرضاً لعدوى الديكتاتورية السياسية من حيث لا يريد، فهو يعد تحليلاته وتقييماته وكل ما يصدر منه بمنزلة الفنار المضيء للتائهين، بينما الواقع يتحدث عن تزاحم القناعات وتكالب الأفكار؛ الأصيلة منها والدخيلة بفضل الانترنت، ولاسيما بين شريحة الشباب واليافعين، الذين ينظرون الى عديد الكتاب والمثقفين على أنهم اشبه بتحف ثقافية جميلة لكنها فاقدة للروح، منشغلين بهمومهم الحالية، ومتباكين على ماضيهم الخاسر، أكثر من اهتمامهم بالزمن الراهن، وما فيه من هموم الجيل الجديد، واستحقاقات التنمية والتطور في المجتمع والأمة بشكل عام.  

اضف تعليق