يُثار بين الحين والآخر جدل بين أوساط الأدباء والمثقفين العرب والعراقيين، حول الجدوى من إطلاق جوائز ومسابقات في مختلف الأجناس الأدبية، لتحفيز الكتاب والمبدعين على تطوير تجاربهم وكتاباتهم، ومواكبة الأدب العالمي، لاسيما في حق الرواية، باعتبارها اليوم تتصدر اهتمامات القراء على مستوى العالم...
يُثار بين الحين والآخر جدل بين أوساط الأدباء والمثقفين العرب والعراقيين، حول الجدوى من إطلاق جوائز ومسابقات في مختلف الأجناس الأدبية، لتحفيز الكتاب والمبدعين على تطوير تجاربهم وكتاباتهم، ومواكبة الأدب العالمي، لاسيما في حق الرواية، باعتبارها اليوم تتصدر اهتمامات القراء على مستوى العالم، ولو أننا أجرينا إحصائية لعدد الجوائز الأدبية المهمة في الوطن العربي التي تتعلق بجنس الرواية، فإننا لا نعثر إلا على جوائز جيدة لا تتجاوز أصابع الكف، ومع ذلك تعد بادرة جيدة لتطوير الإبداع الروائي عربيا.
قبل أسابيع نشرت إحدى المطبوعات الثقافية استطلاعا جيدا عن الجوائز الأدبية وأهميتها في تحريك الكتاب والروائيين وخلق المنافسة بينهم، وشارك في هذا الاستطلاع مجموعة من أدباء العراق المشهود لهم بالتميّز في مجال الكتابة الإبداعية، وكتب المشاركون في الاستطلاع آراءهم المختلفة التي أثْرت الموضوع، وفي هذه الكلمة أحاول أن أتناول الموضوع نفسه ولكن من زاوية أخرى بعد أن سافرتُ إلى تونس بدعوة من وزارة الشؤون الثقافية التونسية، وجمعية ألق الثقافية التي تدير وتشرف على جائزة توفيق بكار للرواية العربية.
الجديد كما لاحظته في حيثيات هذه الجائزة الروائية، ذلك الاهتمام بأدق التفاصيل التي تدفع بالجائزة إلى الرسوخ والثقة والتطور المستمر كما لاحظت ذلك خلال الاستقبال والضيافة وتفاصيل إقامة حفل توزيع الجوائز، حيث كان لجمعية ألق الثقافية ومديرتها الدكتورة أنديرا راضي، والناقد المعروف فتحي بن معمّر مهمة الإدارة والتنسيق لنشاطات الجائزة، وكان الأخير محور التواصل والحركة والتنسيق الفعلي، لهذه الجائزة السنوية التي تعاقبت دوراتها الأربع بنجاح وتم الإعلان عن دورتها الجديدة الخامسة.
تُعد هذه المسابقة في بداياتها، وبعضهم وصفها بالجائزة أو المسابقة المشجّعة، فقد بدأت دورتها الأولى قبل أربع سنوات، واستمرت لأربع دورات، شارك فيها المئات من الكتاب العرب، من جميع الدول العربية أو الناطقة بالعربية، وقد حققت حضورا وسطوعا مستمرا، على الرغم من صعوبة الأوضاع الاقتصادية في تونس، وهو أمر معروف لمن يتابع الوضع الاقتصادي وحتى السياسي لهذا البلد، لكن هذه الصعوبات لم تعرقل استمرارية الجائزة سنويا حيث تتطلّب أعباءً مالية لا يُستهان بها، تبدأ من توجيه الدعوة إلى الفائزين بالمراكز الخمسة الأولى للحضور إلى تونس العاصمة، وإرسال تذاكر الطيران لهم، مع توفير الحجز الفندقي، وتأمين السكن والإطعام، بالإضافة إلى الجوائز المالية المخصصة بطريقة تفاضلية بين الفائزين، وهي مبالغ جيدة في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تونس.
من مزايا هذه الجائزة ذلك التنوع الإبداعي الروائي العربي المنخرط فيها، ففي دورتها الرابعة لسنة 2022 فازت خمس روايات من خمس دول عربية هي (تشاد، والأردن، وتونس، والعراق، والسودان)، وهذا يدل على نوع من الثراء الإبداعي في جنس الرواية العربية، وتنوعت عناوين هذه الروايات ومضامينها والأفكار التي طرحتها وناقشتها، وإذا تحدثنا عن تفاصيل هذه الجائزة سوف نلحظ جهودا كبيرة ومتواصلة في الجانب التنظيمي والتنسيقي الذي يقوم به الدكتور فتحي بن معمر بالتعاون مع فريق الجائزة المتميز.
تبدأ الخطوة الأولى بإعلان بدء الدورة الجديدة عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتبدأ الروايات تتدفق على العنوان المخصص (إيميل استقبال الأعمال المشاركة في الجائزة)، ويتم استقبال هذه الروايات وتنسيقها وفرزها، وإبعاد الروايات التي لا تلتزم بشروط الكتابة المعروفة (كالأخطاء الإملائية)، وبعد عملية الفرز تُرفَع الأسماء عن الروايات المخطوطة، ويتم تحويلها من صورتها الإلكترونية إلى ورقية، وكل رواية يتم طبع ثلاث نسخ ورقية منها، ويتم إرسالها إلى أعضاء لجنة التحكيم الثلاثة، وهم لا يعرفون بعضهم، ولا توجد أي اتصالات متبادلة فيما بينهم لأنهم لا يعرفون بعضهم بعضا، وبعد التقييم ووضع الدرجات تبدأ عملية المفاضلة بين الأعمال المشاركة، ويتم خلال ذلك عقد اجتماعات تشاورية بعد إنجاز التقييم في المراحل النهائية، ثم يتم تحديد الروايات الخمس الفائزة.
هذه التفاصيل المذكورة في أعلاه تستمر إلى أكثر من أربعة شهور، يتم خلالها تنسيق الأعمال وتنظيمها، وكما هو واضح يحتاج هذا الجهد التنظيمي إلى وقت طويل ودقة ومتابعة استثنائية، وهو ما تحقق في هذه المسابقة، حيث تراكمت خبرة القائمين عليها من خلال الاستفادة مما يحدث في الدورات المتتابعة، ولاحظت شخصيا مدى اهتمام (جمعة ألق الثقافية) بالأمور والجوانب التنظيمية التي تجري بهدوء وسلاسة واضحة، حيث يُقام حفل الختام لتوزيع الجوائز في يوم محدّد (السبت 18/3/2023) ومكان محدّد يحضر فيه الفائزون وأعضاء لجنة التحكيم والقائمون على مسابقة توفيق بكار، وجمهور واع جميل، ويكون المكان عادة لائقا مشرقا مضيئا ومحمّلا بمظاهر الابتهاج وتنتشر فيه الورود والأزهار والأجواء المعطرة بالجمال، مع وصلات موسيقية وفنية غاية في العمق والتأثير.
هذه التفاصيل التي ذكرتها عن جائزة توفيق بكار للرواية العربية، ليست صعبة التنفيذ، ولكنها تحتاج إلى إرادة قوية، وتعاون جماعي وحرص صادق على إنجاح الجائزة وضمان استمراريتها، وهذا ما لاحظته بنفسي في تونس، فكل القائمين على هذه المسابقة يتفقون مع بعضهم على أهميتها، وعلى تقديم المزيد من الجهود (وخاصة التفرغ والانشغال بالتفاصيل)، وتأجيل الكثير من المهام الشخصية، فالمهم لديهم نجاح الجائزة أولا.
حبذا لو يكون عندنا في العراق جائزة عربية من هذا النوع، ونحن بلد الثقافة والإبداع والتاريخ المشهود له أدبيا وثقافيا على مر العقود، والأمر لا يحتاج الكثير من الأموال (مع أننا بلد غني)، بل يحتاج إلى إصرار وإرادة قوية وحرص على الإبداع من القائمين على الشؤون الثقافية العراق وصنع القرار الثقافي العراقي، إنها دعوة صادقة نأمل أن تجد صداها عند من يهمه أمر الثقافة والأدب الروائي بشكل خاص عراقيا وعربيا.
أخيرا إلى دقة وجمال التنظيم من لحظة وصول الضيوف إلى مطار تونس، واستقبالهم بشكل لائق وكريم، وكانت هناك جولات راقية تعرّف الضيوف بالمدن الثرية والسياحية الجميلة في تونس مثل مدينة سيدي بن سعيد وبنزرت وحلق الوادي وغيرها، في رفقة غاية بالتفرّد والجمال، تخلّلتها فعاليات مسرحية وموسيقية وإعلامية وترفيهية مثمرة، لقد مرّت تلك الأوقات بسرعة الأحلام الوردية، ولم يبق منها سوى الذكرى، ووجوب الشكر لمن يعمل بجد في خدمة الثقافة والفن والأدب والإنسانية عربيا وعالميا.
اضف تعليق