الصحافة لا يمكن لها ان تحيد عن دورها التقويمي وتصبح مكبر صوت تذيع خطابات السلطة وتتناقل معلومتها، فهي بذلك فقدت اهم مزية لها وهي الرقابية التي منحتها القوة وجعلتها تسمى بالسلطة الرابعة، المتمكنة من البحث والتدقيق والاستنباط للحكم على الحوادث والوقائع دون الخروج عن القواعد الإعلامية وترك اخلاقيات المهنة التي بدونها تتحول الى صحافة ابتزازية...
وجدت الصحافة من اجل اظهار المخفي ونشر ما لم يتمكن أحد معرفته بصورة مباشرة او بصورة فردية، ولهذا يقال ان الصحافة في جوهرها يمكن ان تكون نوع من أنواع المقاومة الفعلية لجميع اشكال حجب المعلومة وتدفق الحقائق الى الجمهور العام.
تلقي المعلومات من قبل العامة بالطرق القديمة عن طريق التعرض لوسائل الإعلام التقليدية، لا يمكن ان نعده اعلام بالدرجة الأساسية التي انبثق منها او الغرض الرئيس لنشوء الاعلام ووسائله المتعددة، فالمعلومة العامة يمكن لأي فرد ان يتلاقاها دون بذل اقصى جهد منه، ولهذا ينحصر مفهوم الاعلام الحقيقي والواقعي في الجانب الاستقصائي منه.
الاستقصاء وان كان من الأركان الإعلامية المغيبة في الإعلام العربي والعراقي على وجه التحديد، لكنه الركن الوحيد الذي يجلب ما وراء المعروف ويفسر ما لم يتمكن أحد تفسيره، ويحيط بالجوانب المتعددة للموضوع محل التناول والطرح.
وكل عمل إعلامي خلاف لذلك يمكن ان ندرجه ضمن الأغراض الدعائية او العلاقات العامة التي تعمل على تحسين صورة وشخصية مؤسسة بعينها على حساب المؤسسات الأخرى، منبثقة بذلك من مبدأ التنافس والسباق الترويجي.
لقد انحسر في الوقت الراهن دور الصحافة التقليدية بشكل كبير، فهي الى جانب المضايقات التي واجهتها في العقود الماضية، كالاعتماد على الطرق القديمة في الإخراج والطرح، الى جانب ضعف التمويل المباشر ما جعلها أسيرة الممول الذي يزاول سلطته المالية لتمرير رغباته ورؤيته الشخصية على حساب المهنية في الإنتاج الإعلامي.
لقد تحول الإعلام في الوقت الحالي الى جهاز او دعامة زائدة ملصقة في مقدمة الحزب او الجهة التي ينتمي اليها، يضطلع بمهمة تحسين الصورة لهذه الجهات والأحزاب، متنازلة عن كونها أداة تستمد ماهيتها من كونها مستقلة وحرة تبحث فيما وراء الأحداث والوقائع والمواقف التي لا تتكشف عادة ولا يراد لها أن تظهر أو يطلع عليها الرأي العام.
لقد تمكنت مواقع التواصل الاجتماعي من تقليل بريق وسائل الإعلام التقليدية، وضغطت باتجاه الانسحاب نحوها مستندة بذلك الى بعض المميزات التي تفتقد اليها الأخيرة وهي السرعة في نقل وتناول المعلومة، وبذلك حققت نوع من التفرد في التعاطي مع المعلومة بغض النظر عن مصداقيتها.
أضف الى ذلك التضييق فهي اليوم تعاني (أي وسائل الإعلام التقليدية)، من ازمة كبيرة تتجسد في شح المصادر التي تزودها بالمعلومة، وتكميم الافواه الذي تمارسه السلطات الحاكمة، وهي بهذه الشاكلة تحولت الى مجرد وسيط ناقل الى المعلومات التي تنساب من لسان المسؤولين والذين لا يريدون للجمهور ان يطلع على غيرها.
وفق هذه الفلسفة السياسية التي تتبعها الأحزاب الحاكمة في التعامل مع وسائل الإعلام، تكون هي القائد للجماهير والمتحكم الوحيد فيها، ذلك لأنها من تهيمن على الخزين المعلوماتي، محاولة تغييب او تقليل نسب الوعي الجماهيري، وتسعى بعد ذلك الى إقناعهم ان ما يقرؤونه ويسمعونه ويشاهدونه هو الحقيقة الدامغة ولا تقبل التشكيك.
اغلب القنوات الفضائية التي تعرض برامج مختلفة وقعت في شباك احتكار المعلومة من قبل السلطة، ولا يتجاوز عدد المقدمين المالكين للمعلومة الدقيقة عدد أصابع اليد الواحدة، فالحصول على المعلومة أصبح في وقتنا الحالي يعتمد بالدرجة الأساس على التغلغل في الأوساط السياسية.
ولنا على ذلك أقرب الأمثلة الإعلامي احمد ملا طلال الذي تفرد عن غيره بامتلاك المعلومة الدقيقة والحصرية، والسبب وراء ذلك كله، كونه عاش لسنين طوال في دهاليز السياسية وسبر اغوارها بالاعتماد على علاقاته الشخصية وتمكن من تكوين رصيد معرفي له يختلف عن زملائه في المهنة.
اذ وضع قدميه في بيئة تنافسية صعبة قدم فيها محتوى لا يمكن ان يوجد في أي صحيفة او وسيلة إعلامية، وبذلك كان هو الأقوى في الساحة والاقرب الى الصحفي الاستقصائي بحكم ما يملكه من تجربة ومعايشة طويلة لاصحاب القرار والذين يعدون الصناديق السوداء.
الصحافة لا يمكن لها ان تحيد عن دورها التقويمي وتصبح مكبر صوت تذيع خطابات السلطة وتتناقل معلومتها، فهي بذلك فقدت اهم مزية لها وهي الرقابية التي منحتها القوة وجعلتها تسمى بالسلطة الرابعة، المتمكنة من البحث والتدقيق والاستنباط للحكم على الحوادث والوقائع دون الخروج عن القواعد الإعلامية وترك اخلاقيات المهنة التي بدونها تتحول الى صحافة ابتزازية قائمة على النيل من الآخر دون وجه حق او الاستناد على معلومة صادقة.
اضف تعليق