كيف نعمل بغياب الفن على بناء دولة مدنية تحكمها المؤسسات، وليس الارتجال الذي يهيمن عليه المتخلف، وينعدم فيه المتنور؟، دولة ينعم فيها الناس بقيم المواطنة، وتُلطّف عبر مباهجها الأمزجة، وينبذ فيها التطرف، وتخفف بفنونها التشنجات التي خلفّها عقدان من العمل الاعتباطي، ولن يحدث ذلك اطلاقا ما لم نضع مؤسسات الثقافة أولوية قصوى...
تذكرني أزمة مسرح الرشيد التي دارت بين الفنانين ووزارة الاعمار والاسكان التي ادعت ملكية الأرض التي شُيد عليها صرح مميز من منارات التنوير والابداع، وحسمها السيد رئيس الوزراء لاحقا بالانتصار للفنانين، والإبقاء على مسرحهم قائما، مع انه مازال جثة هامدة منذ الاحتلال، فالأجواء الفنية راكدة، وغالبية الفنانين عاطلون عن العمل، ولم يرق النشاط الفني بشتى مجالاته الى مستوى الطموح، كل ذلك تقف ورائه السياسة التي يجول فيها من لا تعني له الثقافة شيئا، ما يهمه كيف يثرى من الاستثمار في السياسة التي لا تشترط مؤهلا معينا، يكفيك الاعلان عن ولاء مطلق لمن يرأسك، وألا تحيد عن مساره المرسوم خارجيا في الغالب، وألا تسأل ان كان في الطريق مخرجا للوحل الذي نغوص فيه، او مصلحة للذين يتطلعون لوطن معافى .
تذكرني هذه الأزمة بالمسرح الجوّال الذي كان يجوب القرى والأرياف ناشرا البهجة في النفوس وغارسا القيم السامية في العقول، يوم كان تنوير الجمهور هدفا للدولة، وطريقا للحاق بالركب. ثمة قناعات راسخة للذين فعّلوا المسرح الجوال بان الثقافة المستنيرة مدخلا لمختلف أشكال التنمية، والفن أحد قنواتها الرئيسة، فالفن يهذب الأذواق كما ينمي الدين الأخلاق، وان الدول التي لا فن فيها فقدت منهلا مهما من مناهل الثقافة، فلا يبقى منا للمستقبل الا ما تجود به ابداعات الفنانين والأدباء والعلماء، وبغير ذلك لن تجد الأجيال القادمة ما يعزز شعورها بالانتماء للوطن.
مفارقة غريبة ونحن في الألفية الثالثة أن يُنظر للفن بما لا يليق به، وألا يُدرك دوره الحقيقي في الحياة، وان يُحارب من خلف الستار وبأدوات متخلفة تملك صلاحية اتخاذ القرار، وبمؤسسات تتبع للدولة يدعي القائمون عليها بأنها لخدمة المجتمع، وتتعالى أصواتهم وبصريح العبارات لمحو مسرح الرشيد، ربما يكون من بين المختبئين خلف الستار من يريد بأرضه انشاء مشروع تجاري، ولتذهب الثقافة الى الجحيم، بينما كان الفن قبل عشرات العقود يطرق على الناس أبوابهم حيث يسكنون، وفي أقصى القرى النائية، تلك التي توصف بالانغلاق، ويعمل بإصرار شديد على كسر العزلة، والانفتاح على الدولة بوصفها خيمة للجميع.
كيف نعمل بغياب الفن على بناء دولة مدنية تحكمها المؤسسات، وليس الارتجال الذي يهيمن عليه المتخلف، وينعدم فيه المتنور؟، دولة ينعم فيها الناس بقيم المواطنة، وتُلطّف عبر مباهجها الأمزجة، وينبذ فيها التطرف، وتخفف بفنونها التشنجات التي خلفّها عقدان من العمل الاعتباطي، ولن يحدث ذلك اطلاقا ما لم نضع مؤسسات الثقافة أولوية قصوى، وأن نجدد في محتوى ثقافتنا.
لا يسعك الوصف سوى بالكارثة عندما ترى من يعمل على تهديم المسارح واقتلاع النصب من الساحات وغيرها من المعالم التي تجسد هوية العراق، بينما يفترض واقعنا الثقافي أن تسعى الدولة لتشييد المسارح وقاعات العروض الموسيقية والتشكيلية في كل مدينة، وهذا ما يقتضيه العراق الذي نريده جديدا كما يقولون، لكن لم يتحقق ما يمكن الاشارة اليه.
ومع ذلك يسألون عن أسباب شيوع التطرف، واتساع الروح العدوانية لدى الأفراد، وتراجع الذوق العام في المجتمع، هل رأيتم أسئلة ساذجة مثل هذه التي لا تُربط بالفنون والآداب، بإهمالنا الفنون وعموم قنوات الثقافة لن نحصد سوى المتعفن من الثمار.
من المؤسف أن تسبقنا في تشييد صروح الفن من كنا نصفها بالأنظمة الرجعية، بينما صار راهن الذي يمتد عمقه للقيثارة السومرية مثارا لتندرها، وهي ترى المعاول تهشّم الثور المجنح وتفجّر المنارة الحدباء وتقتلع تماثيل من بنوا للمجد مدنا، ومع كل هذا الأسى، لكننا واثقون من انتصار ارادة النور على عزيمة الظلام.
اضف تعليق