q
ان ضعف الخيال سببه ضعف اللغة، ولم يأت كلامي من فراغ، او عبارة عن تأملات ذاتية، وانما نتيجة لدراسة علمية مقارنة بين مستوى لغة الطلبة وحدود الخيال في مشاريعهم الفيلمية، وأظهرت النتائج ان الطلبة الذين لا يتوافرون على مهارات لغوية افتقدت أفلامهم للخيال الإبداعي...

استغرب حاضرون من طروحاتي التي ربطت بها بين الخيال واللغة في الندوة الدولية التي نظمتها كلية الفنون الجميلة بجامعة ديالى وأدارها المخرج المصري عاصم نجاتي الرئيس الأسبق للمركز القومي للمسرح، وقلت فيها ان ضعف الخيال سببه ضعف اللغة، ولم يأت كلامي من فراغ، او عبارة عن تأملات ذاتية، وانما نتيجة لدراسة علمية مقارنة بين مستوى لغة الطلبة وحدود الخيال في مشاريعهم الفيلمية، وأظهرت النتائج ان الطلبة الذين لا يتوافرون على مهارات لغوية افتقدت أفلامهم للخيال الابداعي، بما أنتج افلاما عبارة عن صورة فوتوغرافية للواقع، فضلا عن افتقارها للمعالجات الفنية العميقة.

ما اريد قوله: ان اللغة هي آلية التفكير، ولذلك قال الاستاذ الدكتور نوري جعفر في كتابة (اللغة والفكر) الذي صدر في تونس عام 1971 ان العلاقة بين اللغة والفكر علاقة وطيدة، فلا فكر من دون لغة، ولا لغة من غير فكر، فاللغة وعاء الفكر، وعليه لن يكون تفكير المرء صحيحا ما لم تكن لغته سليمة، من هذه الزاوية تحديدا رهن المستشرق الفرنسي لويس ما سينيون -1883 1962 تقدم الامم بالارتقاء بلغتها. وهذا يعني ان تراجع اللغة قد يؤدي الى انحدار الامم.

ومن واقع تجربتي في التعليم العالي التي مضى عليها أكثر من ربع قرن يمكنني القول: ان البحوث التي تنطوي على فكر عميق ورؤية منهجية ناضجة تلك التي يتمتع أصحابها بقدرات لغوية متقدمة، بينما التي عكسها تفتقد الى المنطق العلمي وغير متماسكة فكريا، ناهيك عن ركاكة اسلوبها، وهذا يتطلب من المعنيين عن القبول في الدراسات العليا التأكد من مستوى لغة المتقدمين اذا ما أردنا للبحث العلمي تقدما ورصانة.

وبالرغم من أهمية اللغة الأجنبية وامتلاك مهارات استخدام الحاسوب، الا انها لا تعني شيئا ازاء اللغة الام التي يكتب بها الطالب بحثه، بينما قرأنا تصريحا نشر في جريدة الزمان لوزير التعليم العالي السابق الدكتور قصي السهيل أكد فيه على اللغة الأجنبية ومهارات الحاسوب من دون التطرق الى اللغة العربية، في حين ان نسبة كبيرة من طلبة الدراسات العليا لا تتناسب لغتهم مع مرحلتهم الدراسية، وبعضهم مخجلة جدا، ولذلك جاءت الكثير من الرسائل والأطاريح ركيكة المستوى لغة وفكرا، وهذا يستوجب أن يخضع المتقدمين لاختبارات لغوية حقيقية وغير مخترقة من الفاسدين وأصحاب الواسطات.

اهمالنا للغة لا يقتصر على ما يجري في مدارسنا وجامعاتنا التي رفدتنا ببعض الطلبة والأساتذة الذين لا يجيدون كتابة صفحة واحدة سليمة لغويا، بل هناك جهات تتعلق اللغة لديها بتحقيق العدالة، كما هو حال القضاء الذي يجب أن تحرص نصوصه على السلامة اللغوية بما يجعل مضامينها واضحة ومعانيها محددة غير قابلة للتأويل، وبالمصادفة اطلعت على مقتبسي حكم صادرين عن جهات قضائية رفيعة المستوى، وقد أدهشني اسلوبها الركيك وكثرة أخطائها النحوية والطباعية، أظن ان المحققين ومدوني الأقوال بحاجة الى تأهيل لغوي، او الاستعانة بمتخصصين باللغة العربية لمراجعة مقتبسات الحكم وأوراق التحقيق وغيرها، مع افتراضي بان القضاة يمتلكون ناصية اللغة.

الحديث عن التراجع اللغوي في مؤسساتنا يطول، حتى صار الذي يتحدث اللغة الفصحى نشازا، اذ شكى لي بعض الأصدقاء من الانتقادات التي يتعرضون لها لاستخدامهم اللغة الفصيحة البسيطة في مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين انهم لا يجيدون التعبير الدقيق عن أفكارهم بغيرها، وان اللهجة العامية تربكهم كثيرا.

عوامل شتى تقف وراء تراجعنا اللغوي، أي وراء انحدارنا، وفي مقدمتها وسائل الاعلام، اذ هيمنت اللهجات العامية على جل البرامج التلفزيونية والاذاعية، وحدث ولا حرج عن حجم الأخطاء النحوية التي يقع فيها مذيعو النشرات الاخبارية ومقدمو البرامج، وصار البعض من الناس يصحح لهؤلاء المذيعين، بينما كان الأمر معكوسا يوم كان الاعلام مسؤولا، ولا يدخله الا من يتمتع بجدارة لغوية، وليس جمال الوجه والقدرة على الثرثرة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق