اذا ما اردنا ان نكون سلميين حقيقيين ليكن عدونا الوحيد هو الحرب ولا شيء غير ذلك، لا يوجد عدو لانصار السلام سوى الحرب، هم يريدون السلام للجميع حتى لاعدائهم، فالعدواة تصنعها الأفكار والكتابات العنيفة، ولا يمكن القضاء على العنف الا من خلال الركون الى السلام واشاعته للجميع...
في بث مباشر عبر احدى القنوات الفضائية العراقية، وفي تغطيتها للاحتجاجات الشعبية في بغداد ظهر المراسل وهو يتحدث عن مظاهرات سلمية خالية من أي اعمال عنيفة، لكن الصورة الخلفية التي التقطتها الكاميرا كانت اكثر صدقا، اذ كانت هناك مواجهات بين المتظاهرين وقوات الامن، فالمتظاهرون يقلعون الحجارة من الأرصفة ويرمونها ضد قوات الامن، التي هي تستخدم القنابل الدخانية والأسلحة.
وفي مشهد اخر يظهر مراسل قناة العراقية الرسمية وهو يتحدث عن الهدوء في ساحات التظاهر، بينما تسمع أصوات الاطلاقات النارية في الخلفية الصوتية للمشهد، وهو ما جعلها محل ادانة وسخرية من قبل المتابعين.
في المشهدين تلخيص لما يحدث في العراق، هناك واقع سلمي تعرضه وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يمثل رغبة من قبل الأطراف السياسية الفاعلة في تحريك الاحداث بالاتجاه الذي تريد وتسويق صورة معينة تختلف عن الواقع الميداني، فمن اجل اهداف سياسية يتم التعتيم الإعلامي بشكل كامل عن استهداف المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي حتى لا تتشوه صورة الحكومة والأحزاب الحاكمة، ومن اجل اهداف سياسية أيضا يتم التعتيم الإعلامي بشكل كامل عن أي حدث يتعلق باستهداف قوات الامن العراقية من قبل جهات لا يعرفها احد، يمنع على الجميع الإبلاغ عن هذا الاستهداف ليس حبا بالمجرم، الحكومة لا تريد تشويه سمعتها، وأصحاب الاحتجاجات يريدون الحفاظ على بياض صورتهم الجديدة على المشهد السياسي، وفي الحد الفاصل بين الطرفين هناك عنف مفرط على اعلى المستويات، وهناك استباحة لمصالح الناس، وهناك استهانة واهانة للقانون ومن يمثل تطبيق القانون.
جميع القوى السياسية نجحت في امتحان السلمية شفوياً، لكن اغلبها رسب في امتحان تحويل الكلام الجميل الى واقع نعيشه في بلد يعاني من تبعات العنف منذ سقوط النظام الملكي وحتى الان، فالحروب هنا موضة تمارسها الأنظمة الحاكمة والقوى المقربة منها كجزء مرافق لمشاريع التطوير المكتوبة، ولم تسلم الحركات السياسية من استخدام العنف للرد على عنف السلطة، ومع بروز احتجاجات تشرين الأول بدا انها تسير في اتجاه مختلف تنبذ العنف وتستخدم السلمية كوسيلة فعالة لتحقيق أهدافها وازاحة السلطة الحاكمة.
ما زاد من التفاؤل بخروج تظاهرات سلمية مختلفة عن السابق هو عدم خضوعها لاي جماعة سياسية من الجماعات التقليدية وسيطرة القوى العلمانية التي تعتمد بشكل كبير على وسائل الاعلام في تحشيد الجمهور على عكس القوى التقليدية التي غالبا ما تلجأ الى العنف في إيصال رسائلها السياسية، او من خلال التهديد باستخدام العنف، اما القوى العلمانية فمن حيث المبدأ هي لا تملك قوة مسلحة لكنها في المقابل لها قدرة هائلة في التحشيد الإعلامي وقيادة الرأي العام نحو الأهداف التي تريدها، باستخدامها لشعارات بلاغية وأساليب دعائية تتوفق مع طبيعة وسائل الاعلام الحديثة ومنها مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا الامل والتفاؤل لم يصمد امام اول اختبار خلال الأيام الأولى للتظاهرات فقد سقط عدد من الضحايا بالرصاص الحي، واضافهم من الجرحى، وعرضت مشاهد متناقضة في عموم المحافظات التي شهدت التظاهرات، فبينما نرى قوات الامن وهي تساند المتظاهرين، شاهدنا قوات الامن وهي تطلق الرصاص الحي ضد المتظاهرين، وبنفس الطريقة شاهدنا متظاهرين سلميين يواجهون الرصاص بالسلام، والنار بالورد، يقابلهم من يرفعون شعارات استفزازية، ويحرقون المقرات الحكومية ويستهدفون مصالح الناس.
كل هذا يجري والحكومة تعلن انها ضد قتل المتظاهرين بينما جزء من قواتها يحمي المتظاهرين، والجزء الاخر يتماهى مع القوى المسلحة خارج اطار الدولة ويسمح لها باستخدام العنف المفرط ضد المواطنين، يخرج رئيس الوزراء بكلام جميل يشعر السامع وكانه يعيش في سويسرا او احدى الدول المرفهة، ويخرج الكثير من النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهم يتحدثون عن السلمية لكنهم يرشحون اخطر المنشورات والتغريدات من اجل التعبير عن الغضب تجاه الحكومة، وفي نهاية الحديث يقولون اننا مع السلمية، أي سلمية هذه المرفقة بالكلام المستفز تجاه الاخر، والكلام هنا للحكومة وحلفائها، او لخصومها وحلفائهم.
السلمية ليست خطابات سياسية فقط، هي بحاجة الى عدم تناسي الأخطاء وكشف الأخطاء تلك مهما كان مرتكبها، لان أي خروج عن خط السلمية سؤدي الى انجرار الجميع الى كارثة الحرب التي لا نحتاجها، لأننا ان استطعنا التستر على المجرم لانه ينتمي الى جهة سياسية موالية لنا (من جماعتنا) فانه سوف يطمئن ويمارس أسوأ أنواع الاجرام لكونه وجد المظلة التي تحميه، واذا ما استقر له الحال سينقلب علينا في أي لحظة ويتحول من طرف موالٍ (من جماعتنا) الى عدو شرس يقتلنا بنفس الطريقة التي قتل خصومنا ونحن نتستر عليه بحجة انه (من جماعتنا).
اذا ما اردنا ان نكون سلميين حقيقيين ليكن عدونا الوحيد هو الحرب ولا شيء غير ذلك، لا يوجد عدو لانصار السلام سوى الحرب، هم يريدون السلام للجميع حتى لاعدائهم، فالعدواة تصنعها الأفكار والكتابات العنيفة، ولا يمكن القضاء على العنف الا من خلال الركون الى السلام واشاعته للجميع بدون أي استثناء وفضح كل من يستخدم العنف.
اضف تعليق