بعض التساؤلات يتم طرحها افتراضا، ومنها ما جاء في العنوان أعلاه، فقد تعددت المؤسسات والجهات والأحزاب والمصالح، وبات المثقف والمفكر، ومنتِج الثقافة والإبداع، رهينة لهذا الواقع المشوَّه، فربما هناك كثير مفكرون ومبدعون يستسلمون لهذا الحزب أو ذاك، أو هذه المنظمة وسواها، تحت ضغط الرزق اليومي...
بعض التساؤلات يتم طرحها افتراضا، ومنها ما جاء في العنوان أعلاه، فقد تعددت المؤسسات والجهات والأحزاب والمصالح، وبات المثقف والمفكر، ومنتِج الثقافة والإبداع، رهينة لهذا الواقع المشوَّه والذي لا يستطيع أحد نكرانه، فر بما هناك كثير مفكرون ومبدعون يستسلمون لهذا الحزب أو ذاك، أو هذه المنظمة وسواها، تحت ضغط الرزق اليومي والحاجة إلى العمل وتعدد الاحتياجات وصعوبة توفيرها في عصرنا الذي انفتح على كل شيء.
السؤال الجوهري هل يجوز للمفكر أن يتنازل عن حريته في التفكير والمعتقد، حتى يمكنه إدامة توفير احتياجاته وعائلته؟، بالطبع ليس هناك من يصرّح علنا إنه يقبل بهذه المقايضة المؤسفة، ولكن واقع الحال يثبت هذا الأمر، ولا يمكن الهروب منه أو نكرانه، مع أننا نقر بأن حرفة الكتابة، خصوصا الإبداعية لا يمكنها ضمان مصدر رزق يؤمن حياة كريمة لصاحبها، ما العمل في هذه الحالة؟
هناك ضمير الكاتب ومبادئه، وطبيعة شخصيته ومعتقداته وحتى درجة عصاميته في مواجهة الأخطاء، ففي اللحظات المحورية للزمن، تتضاعف مسؤوليات النخب (المفكرون والمبدعون وأمثالهم)، لدرجة أنها تفوق بأضعاف المرات، مسؤوليات العامة من الناس، وطالما أننا نعيش ظروفا أفرزت الكثير من التشوهات في السياسة والإدارة وسواهما، لاسيما في الدول العربية، لكن هذا لا يعني استسلام المفكر، أو النخب المدنية، إذ عليها الاستيقاظ من حالة السبات، والكف عن حالة الخنوع لسلطات القمع، والانتقال الى حالة نقل السلطة الى الشعب بصورة فعلية، فإن زمنا محوريا كهذا، يتطلب إستعدادا موازيا لقيمته ومزاياه، من قبل النخب المتنورة، وأولها المثقفين والمفكرين الذين لا يساومون على حريتهم وفكرهم ومبادئهم.
من يوقظ الطاقات الكامنة للناس؟
النخبة المثقفة كما يذكر التأريخ المنظور وسواه، لها باع طويل في تحريك الطاقات الكامنة للشعوب، من خلال حُزَم وموجات الوعي المتواصلة، التي تزجها في عقول الناس البسطاء وغيرهم، لذا يُنظر الى المثقف، على أنه مسؤول فكري مبدئي، يمهد السبل الصحيحة لشرائح الشعب الاخرى، لكي تواصل سيرها في المسارات الصحيحة، لهذا هناك أولويات تتصدر غيرها فيما يتعلق بالمثقفين، ومنهم المثقف العراقي، فهو صاحب أولويات، أو ينبغي أن يكون كذلك، وهذه الأولويات ليست جديدة، لكنها قطعا تتغير من ظرف الى آخر، ولكن هل يمكن لنا أن نتساءل عن هذه الأولويات، وماهيتها، أو طبيعتها، ومدى قربها من نبض الشعب، وقدرتها على تحقيق أهدافه، في التحرر والعيش بطريقة تحفظ حقوقه وحرياته وكرامته؟، واقعنا يؤكد أن ما يحدث لا ينمّ عن تساوق وتناغم في العلاقات المتبادلة بين المجتمع والمثقف، والدور التفاعلي يكاد يكون منعدم كليّا أو ضعيفا في أفضل الأحوال.
وحين نطرح تساؤلا ونضعه أمام المثقف، ونطلب منه الإجابة عن دوره في النهوض بعامة الناس، ماذا سيكون الجواب المتوقَّع؟، ولو تخيلنا إجابات المثقف العراقي، في هذه المرحلة المحورية، التي ينتقل فيها المواطن البسيط، من التفكير السطحي، والقبول بما يسد الرمق، الى التفكير الجوهري، والسعي الى تحقيق النمط الحياتي التحرري، فإننا قد نصاب بخيبة كبيرة، لأننا سوف نطلع على سقف من المطالب، لا يليق قطعا بدور المثقف، ومسؤولياته الكبيرة في هذه المرحلة، إنني أستطيع أن أدوِّن رأيي في هذه القضية بعيدا عن المزاجية الفردية المتقلّبة، وبعيدا عن عشوائية التصوّر والاستنتاج، بل ما أقوله هنا يستند الى وقائع، يمكن أن نبصرها، ونلمسها في الشارع العراقي، فالمثقف العراقي صاحب أدنى سقف للمطالب، بل غالبا ما ترتبط مطالبه، بمطالب الذات او الفردية المستمَدة من أنانية، لم نستطع كمثقفين أن نتخلص منها حتى اللحظة، وإذا كان الامر كذلك، فما بالك بالشرائح الأقل وعيا، وكيف يمكن أن يقوم المثقف - بوصفه نخبة فكرية قائدة- بدوره في رفع سقف المطالب، الى الدرجة التي تليق بأهمية الانسان، وأحقية مطالبه المشروعة، التي كان ولا يزال يفتقد لها، وهي لا تعدو كونها حياة تحقق له حفظ الكرامة في أدنى مستوياتها، وما يُطلَق الآن من تصريحات أو بيانات أو توضيحات ودعوات لإعادة المكافأة السنوية للمبدعين ما هي إلا دليل على تدنّي التفكير الذي يعتمده المثقف فيما يتعلّق بالحقوق بمنظورها الأوسع.
المفكرون بين المطالب المبدئية والمادية
من مطالب المثقفين مثلا، السعي لتحقيق منافع فردية بحتة، لا تتجاوز الإطار المادي، سكن، راتب، رعاية صحية ...الخ، وهذا ما نسمعه، ونقرأه، ونراه في وسائل الإعلام، من هذا المثقف او ذاك، ويبدو أن وعي المثقف، لا يزال متأثرا بحالة الغبن العامة التي تعرّض لها عموم الشعب، من الحكومات العراقية التي تعاقبت على تهميشه، وسلب حقوقه، وتحجيم تطلعاته، ولكن لايجوز للمثقف أن يتساوى في الوعي، مع عامة الناس، واذا صح هذا فإنه من باب أولى، ينبغي أن لا يتساوى في مستوى سقف المطالب مع الآخرين، وعليه أن يركّز بقوة على قضية حرية الرأي والتعبير، وحمايتهما، كونه يمثل نموذجا لعامة الناس أو هكذا ينبغي أن يكون الواقع.
يجب أن تكون الحرية هي المطلب الأزلي للمثقف، وهذا المطلب هو الذي كان سببا مباشرا بقتل، واعدام، ونفي، وتشريد مئات المثقفين على مر التأريخ، ولم تكن المطالب المادية الفردية، والامتيازات، والاغراءات، من شيم المثقثين الأصلاء، لأنها غالبا ما تكون سلاح الحكومات المستبدة وقادتها الطغاة، فحرية الشعب أولا، ثم يأتي الطعام، والسكن، واللباس، والخدمات المادية، التي ستأتي كتحصيل حاصل، لمطلب الحرية الذي لن يتنازل عنه المثقف الأصيل، أو يُفترَض به أن يكون هكذا، ولا يُقصَد هنا بالحرية معناها القولي المجرد، بل جوهرها الفعلي الشاخص والحاضر في ساحة الفعل، لهذا ربما يفتقد العراقيون في هذه المرحلة المحورية من تأريخهم، الى المثقفين الذين يعرفون خطورة دورهم، وحجم مسؤولياتهم، وقدرتهم على التفريق بين مطالب تحسِّن حياتهم المادية، وأخرى تنشئ مجتمعا متحررا من الخوف، والجهل، والعوز المادي، والضمور الفكري في آن، وهذا ما يتّضح من تدنّي سقف مطالب المثقف، الى أدنى الحدود التي تطبعها النزعة المادية، في حين تغيب عن مطالبه، سمة الوعي والايمان بضخامة الدور الملقى على عاتقه راهنا، خصوصا ما يتعلق بالحرية التي لا يجوز المساومة عليها حتى لو تعرضت حياة المفكرين والمثقفين لخطر الإقصاء أو الإلغاء أو التهميش أو حتى المطاردة والتضليل والاحتيال، فالضمير الحي والمبدئية الصارمة ركنان لا يمكن أن التفريط بهما.
اضف تعليق