دور الفضائيات الرصينة والجادة في المساهمة في ايجاد سبل لمواجهة هذه الحرب غير المعلنة على قيمنا وسلوكنا ونمط تفكيرنا بتخصيص مساحات أكبر للبرامج الثقافية وتلك التي تحتفي برموزها الوطنية وذات الأثر وتكريس أوقات أطول للبرامج الوثائقية والرياضية ودعم انتاج مسلسلات وأفلام تاريخية وذات مغزى ودلالة إنسانية...
أشرنا في مقالة سابقة إلى مخاطر الهواتف الذكية وأنها وسيلة فتاكة للحرب الناعمة، واستكمالاً لما ذكرنا نعرج إلى الفضائيات ودورها في هذه الحرب غير المعلنة.. وقبل البدء أوجز مفهوم الحرب الناعمة؛ فكما هو معروف عند المحللين والخبراء السياسيين أن المُنظّر الأمريكي جوزيف ناي هو أوَّل من استعمل مصطلح “القوة الناعمة” عام 1990.
واستعمله مكرراً في كتبه، منها “القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية” الصادر عام 2004 والمؤلف ليس مجرد مفكرٍ أو محلل سياسي، فهو عميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، وكان رئيس مجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع في أميركا. وعلى وفق رأي الكاتب “جوزيف ناي”، فإن “القوة الناعمة” وسيلة النجاح في السياسة الدولية، وهي سلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية والإقناع بدل الإرغام أو دفع الأموال، وموارد القوة الناعمة لأي بلد هي ثقافته إذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية، وقيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص داخلياً وخارجياً.
كما يوضح الكاتب “جوزيف ناي” في كتاب “القوة الناعمة” أن حسم الصراعات بالقوة العسكرية وحدها أصبح أمراً من الماضي خاصة أن الانفتاح وقوة وسائل الاتصال والبرمجيات قد تشكل عائقاً كلما حاولت الولايات المتحدة شن حرب جديدة، ويدعو إلى اعتماد استراتيجية القوة الناعمة لضمان حلفاء ليس من الحكام فقط بل من شعوب المناطق التي تريد أمريكا فرض سيطرتها عليها بشكل ما.
وهذا ما دفع البعض إلى أن يطلق على هذه الاستراتيجية (حرب ناعمة)، أو هي بمثابة (إعلان حرب)، ومنهم الكاتب والباحث اللبناني فريدريك معتوق. والحرب الناعمة بالتأكيد لها أدواتها ووسائلها، ويمكن القول بإيقان تام أن الإعلام والهواتف الذكية يعدّان الوسيلة الأخطر والأشد فتكاً بالجهات المستهدفة.
المتابع لمختلف الفضائيات يلحظ أنها تعرض وبشكل متكرر، وفي أوقات تكون ثابتة ما يلي:
أولاً: أفلام ومسلسلات أجنبية أو مدبلجة
وتتمحور حول المواضيع الآتية: الجنس: إذ لا يخلو فيلم أو مسلسل من مقطع جنسي، إن لم نقل مقاطع التي تعرض المرأة كمادة للجنس والابتذال!
وهذا أوضح دليل على الازدواجية الغربية، فهي تطبل لحقوق المرأة، وفي الوقت نفسه تنتج وتنشر أفلاماً تظهر فيها المرأة كحيوان جنسي! الخيانة: تمحورت مؤخراً المسلسلات حول ثيمة واحدة هو الخيانة، ليس خيانة الزوج؛ فذلك موضوع بات قديماً مستهلكاً، بل خيانة الزوجة.. وتكراره يفضي بالتأكيد لجعله أمراً اعتيادياً، مقبولاً!
العنف: الكثير من الأفلام الهوليودية والمسلسلات تحوي مشاهد عنف وقتل بدمٍ بارد، وبعد سلسلة أفلام أظهرت القاتل بمواصفات خاصة للتعاطف معه؛ فهو الوسيم والمفتول العضلات ومعشوق البطلة الجميلة، بدأت موجة أفلام عن الإتجار بالبشر، لتعرض طرق تقطيعهم في مختبرات أو أماكن خاصة، وكيفية الحفظ والتهريب بل ليس بمستغربٍ أكل بعض قطع الجسم؛ فبذلك انتقلت الأفلام الهوليودية من الخراب المادي إلى الخراب القيمي!
ادب دستوبي
أفلام الديستوبيا: هي أفلام مستمدة من الأدب الديستوبي Dystopia أي أدب المدينة الفاسدة أو عالم الواقع المرير، أدب خيالي يصور المستقبل بصورة سوداوية ونظرة تشاؤمية، يعمّه الفساد أينما كان وتنتشر به الفوضى والاستبدادية، يحكمه نظام شمولي يسيطر عليه الشر بجميع أشكاله وأنواعه)، وأغلبها ذات رسالة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تنتهي بإيحاء أن منقذ البشرية الوحيد هي أمريكا! إدمان الخمر وتعاطي المخدرات: التي غدت من المقاطع الشائعة جداً في الأفلام الأجنبية إن لم نقل العربية أيضاً، للقبول بها وترسيخها كأمر اعتيادي يمكن تقليده. ثانياً: البرامج السطحية: وما أكثرها! ومنها تلك التي تتناول الموضة والمكياج وآخر تقليعات قص الشعر والمطبخ، وانتهاءً ببرامج تستضيف “خبراء” لنقد فساتين النجوم في مهرجانات توزيع الجوائز!
رسوم متحركة
ثالثاً: الرسوم المتحركة: التي ما زلت تستهوي الصغار، إذ تشير الدراسات إلى أن أكثر من 90 بالمئة من الأطفال ما زالوا يتابعون التلفاز ويتأثرون بالصورة والحركة!
وكان الانطباع السائد أنّها مجرّد وسيلة للترفيه البريء الموجَّه للأطفال؛ لذا هي لا تحتاج إلى رقابة أُسريّة ومؤسساتية ولكن، يبدو أنّه صار لزاماً على الأهل إعادة النظر في قناعاتهم تلك، فالأفلام الكرتونيّة التي تبثّها محطّات فضائيّة خاصّة على مدار الساعة، (التي أغلبها من انتاج والت ديزني تلك المؤسسة التي أصبحت عالماً بحدّ ذاتها)، لم تعد بمجملها تحاكي البراءة المفترضة لدى الأطفال. ففي السابق، كانت الرسوم المتحرّكة تعرض قيم الخير، التفاؤل، والصبر، بينما يُشار اليوم إلى أنّ فيها الكثير من قِيَم إلغاء الآخر، الحريّة المطلقة، العنف، واعتماد الطرق الخاطئة في الوصول إلى الأهداف، من قبيل الغشّ، السخرية، الكذب، المكائد وغيرها فضلاً عن تقديم صورة مشوَّهة عن الله والدين، والإكثار من الترويج للسحر والشعوذة بوصفهما من أنجح الطرق لبلوغ الغايات. وهذا ما يستدعي التعامل معها كإحدى أهمّ الوسائل الحرب الناعمة التي ستدفع الأجيال المستقبليّة نحو المزيد من الاضطراب العقائديّ والمجتمعيّ والنفسيّ.
رابعاً: برامج هدفها التسقيط وإثارة الفتن الدينية والمذهبية والمجتمعية؛ التي هي بلا شكّ من أهدف الحرب الناعمة.
ويبقى دور الفضائيات الرصينة والجادة في المساهمة في ايجاد سبل لمواجهة هذه الحرب غير المعلنة على قيمنا وسلوكنا ونمط تفكيرنا بتخصيص مساحات أكبر للبرامج الثقافية وتلك التي تحتفي برموزها الوطنية وذات الأثر وتكريس أوقات أطول للبرامج الوثائقية والرياضية ودعم انتاج مسلسلات وأفلام تاريخية وذات مغزى ودلالة إنسانية.
ولا ننسى أثر الأسرة، الأهم، في متابعة ما يشاهد داخل فضاء البيت للمحافظة على أبنائها من الانحراف وترسيخ مفاهيم لا تمت للموروث الثقافي والقيمي بصلة وايجاد بدائل فعالة للترفيه والتسلية.
أما واجب المؤسسات الحكومية فهو أكبر بكثير ممَّا ذكر، ولم نرَ له أثراً في هذا الشأن، باستثناء بحوث وإشارات خجولة هنا وهناك، ويجدر بها أن تقوم بدورها في الرقابة والمتابعة لما ينشر ويعرض للمحافظة على المنظومة القيمية والاخلاقية للمجتمع العراقي، وهذا يتطلب سنّ قوانين تعاقب وتجرم القنوات المحلية المسيئة الباذلة استوديوهاتها ووقتها وومالها لتلك المنتجات التخريبية، سواء على مستوى الانتاج أو العرض. أما الفضائيات الإقليمية والعالمية فتكلف وزارة الاتصالات للقيام بكل ما من شأنه توفير الحماية للمجتمع العرقي، وكذلك تقوم وزارات الثقافة والسياحة والآثار والتربية والتعليم العالي والرياضة والشباب ومديرية الشرطة المجتمعية بحملات توعية وتثقيف بمخاطر هذه الفضائيات اعتماداً على بحوث ميدانية وتطبيقية وأرقام مستلة من بيانات استقصائية.
اضف تعليق