وفي امريكا لا يزال معظم القراء يقولون إنهم يصدقون ما تقوله الصحف، ‏لكنّ الاستطلاعات التي أجراها مركز پيو للأبحاث تظهر أن نسبة هؤلاء قد انخفضت، ومن هنا نستدل أن الجمهور أصبح يعي ويعرف ما تصنعه الماكنة الإعلامية وكيف اختلط حابلها بنابلها؛ مما جعلها مصدر شك أكثر...

تعد وسائل الإعلام وبكل مجالاتها وتعددها هي حلقة الوصل بين الحدث والمتلقي وبين الأول والثاني تنشأ أواصر متفاوتة، وبين متلقي وأخر وجيل وأخر تتراوح نسبة الثقة بالخبر والحدث المنقول سواء كان من تلفاز أو جريدة أو مذياع أو مجلة أو وسائل التواصل الاجتماعي وذلك يعتمد على عدة عوامل تتحكم بطبيعة العلاقة بين المجتمع ووسائل الإعلام.

وكانت وما زالت الماكنة الإعلامية صمام أمان للدول والحكومات والمؤسسات والأندية الرياضية والأندية الثقافية والشخصيات و… و… وذلك لأن الإعلام هي اليد الطولى التي تصل للجميع وتعكس السياسة المطلوب إيصالها للجمهور لــتلميع أو تشويش أو ترسيخ الفكرة المطلوب بثها من قبل المعلن عن نفسه.

وقد تنوعت ونمت المؤسسات الإعلامية بصورة تدريجية عبر التاريخ ابتداءً من الفطرة البشرية (الفم والإذن) أي الحديث والاستماع، حيث إن التواصل بين البشر هو النواة الأولى للإعلام والاتصال، ومن ثم تطورت إلى إشعال النيران فوق التلال وقرع الطبول في الأسواق والساحات العامة واستخدام الخيول السريعة والحمام الزاجل وإرسال المخطوطات عن طريق النقل البري والبحري للإيصال المراد إيصاله.

وبعد ذكرنا وبصورة مبسطة للتدرج الذي مرت به وسائل الإعلام عبر التاريخ نتوجه الى الإعلام المعاصر الذي يمر بعاصفة إعلامية كبيرة لا يستطيع أحد السيطرة عليها، فقد أصبح الإعلام أفضل سلاح ومن لا يملك هذا السلاح في مشجبه يكون ضعيف ومخترق ويكون كأخرس متقدم لبرنامج أجمل صوت أو كبحار بلا سفينة كما يقال.

وأنتجت لنا وسائل الإعلام متابعين وجمهور متعدد يتراوح مدى ثقته بالخبر مع ثقته بالوسيلة المستخدمة في إيصال الخبر، والقصد هنا ليس الجهة، بل الآلة التي حملت الحدث للمتلقي، فهنالك من يثق ثقة عمياء بما كتبت الصحف الصباحية ويعتبرها هي المصدر الصادق والنتيجة النهائية للحدث وما عداها فهو غير موثوق على الأقل وهذا النوع من الجمهور أغلبهم من الجيل القديم، وأتذكر قول (أوغست فون شلوتسه)‏ المؤرخ والصحافي الألماني في أواخر القرن الثامن عشر: «كل من لا يقرأ الصحف إطلاقًا فهو أحمق،‏ وأشد منه حماقة من يصدِّق ما يقرأه لمجرد وروده في الصحيفة».

وتطورت الوسائل وصولًا لجيل المذياع (الراديو) الذي يملأ صوته أرجاء الأماكن (بيت، مقهى، في العمل، السيارة و… و…) وفي جميع الأوقات، ويصل للمتلقي بدون حاجز، وهذا أسهل وأفضل من تصفح جريدة أو مجلة، وتنوع البرامج الإذاعية زاد رغبة الاقتناء لهذا الجهاز الرائع الذي أصبح لشريحة كبيرة جدا مصدرًا للخبر والمتعة، ولكن بظهور وانتشار التلفاز تم سحب البساط من تحت ترددات الراديو الذي ترك بصمة وأثر كبير في الجمهور الذي تلى جيل الصحف وهنا دخل المشاهد في دوامة الإعلام المرئي الذي تلاطمت موجاته وأصبح متشعبًا وطاغيًا على الجميع ببرامجه ومسلسلاته وأفلامه ونشرة أخباره المعززة بصورة للحدث أو مراسل من قلب الحدث، وبعد الهالة الكبيرة التي نالها التلفاز تاركًا جميع الوسائل الإعلامية خلف ظهره فوجئنا بالتفاف الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) على أغلب الجمهور، وسرقة الأضواء من شاشة الأضواء، وهنا وعند ظهور شبكة الإنترنت بالفعل أصبح العالم قرية صغيرة كما يقال، وتستطيع الاطلاع على كل شيء تقريبًا بلمسة زر، وبدون الذهاب لشراء صحيفة، أو تغيير تردد الراديو، أو نقل قناة التلفاز لمشاهدة الإخبار.

وبين هذا وذاك تكونت لدى الجمهور صورة وفكرة عن وسائل الإعلام التي يبني عليها رأيه في ما وصله من حدث أو خبر، في أحد الاستطلاعات‏ سئل عدة آلاف في بريطانيا وفرنسا عن مدى الثقة التي يضعونها في 13 مؤسسة؛ فحلّت الصحافة في المرتبة الأخيرة،‏ حتى بعد السياسة والمؤسسات التجارية الكبيرة.‏ وفي الولايات المتحدة لا يزال معظم القراء يقولون إنهم يصدقون ما تقوله الصحف، ‏لكنّ الاستطلاعات التي أجراها مركز پيو للأبحاث تظهر أن نسبة هؤلاء قد انخفضت، ومن هنا نستدل أن الجمهور أصبح يعي ويعرف ما تصنعه الماكنة الإعلامية وكيف اختلط حابلها بنابلها؛ مما جعلها مصدر شك أكثر من كونها مصدر ثقة.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق