إنها (آلام الحروب)، ومصائب الجنود، بل هي حتما آلام العراقيين التي لا تريد أن تغادرهم إلى الأبد، لقد تعامل القاص في قصصه هذه مع الألم بمزيج من الواقع المرئي والملموس وخليط من الخيالات التي يثيرها (ألم الأسنان نفسه عند بطل قصة تحت سماء القبّعات) وهذه مفارقة لعنة الألم الواقعي والمتخيَّل عندما يتَّحدان بضراوة...
كأنَّ الإنسان خُلِق للألم، أو أنه خُلِقَ ودِيفَتْ مع عجينةِ جسدهِ خلطةٌ من الألمِ لا يمكن الخلاص منها، هذا ما يمكن أنْ تستشفَّه من نسيح السرد المتدفِّق في قصص (قطارات صاعدة نحو السماء/ مجموعة قصص صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2119) للقاص والروائي فاتح عبد السلام، وضمّت هذه المجموعة أو الكتاب القصصي عشر قصص هي (تحت سماء القبعات، من بغداد إلى ديفالي، العراقي الذي حرّر لندن، لو لم تكن المحطة الأخيرة قريبة، قفزة القرد، المرأة والقطة والرجل القنفذ، لولايكا، الرغبات المتكسرة، برّية في قطار، وأخيرا قصة الضفدع الرمادي).
الكتابة عن الألم ليست جديدة وقد جرّبها كبار الكتاب مثل بورخس حين غطس في عالمه اللامرئي وشيخوخته المعتمة المضيئة في آن، أو جورجيو الروماني في ساعته (الخامسة والعشرون) وهو يتدفّق ألما من بشاعة ونذالة الحرب، وهل يمكن لأديب أو كاتب أو لقارئ محبّ للأدب لم يمرّ بذلك الكتاب الباهر المسمّى بـ (آلام فارتر) المكتوب باللغة الألمانية، والذي نقل كاتبه يوهان غوتة إلى خانة كبار الكتّاب العالميين، مع أنها روايته الأولى التي ذاع صيتها في أرجاء العالم وتلقّفها عيون القراء على نحو غير مسبوق، على الرغم من أنها نُشرت للمرة الأولى في عام 1774 ثم نُشرت طبعة منقحة منها في 1787.
والسؤال المؤلم حقا هو، لماذا هذا الإقبال على قراءة الألم، وهل هذا النوع من القراءة سجية أصيلة من سجايا الإنسان، وبعد ذلك، هل أراد فاتح عبد السلام أن يطرق أبواب الألم من منظور آخر، يختلف عن آلام الحب والمشاعر الشبابية أو الإنسانية المسحوقة تحت سنابك الحروب وقسوتها وجبروتها؟
فاتح عبد السلام لا يتكلم في قصصه هذه عن آلام الحب والشوق الحقيقي والمشاعر الملتهبة، كما فعل غوتة الألماني في آلام فارتر، ولم يشأ الخوض في العالم المظلم لبورخس حين صار ضريرا وفقد عالمه المرئي إلى الأبد، ولم يكن معنيا بما صوّره جورجيو الروماني ليؤجّج كراهية الحرب، بل أجزم أنه طرق بابًا أخرى من أبواب الألم، بابًا لها علاقة مشتبكة مع قضايا العراقيين وآمالهم وأحزانهم وعذاباتهم التي أشعر وأنا منغمس في قراءة القصص، أنها آلام تتدفق من نوافذ القطارات الهاربة إلى السماء أملا بالخلاص من بشاعة الأرض.
إنها (آلام الحروب)، ومصائب الجنود، بل هي حتما آلام العراقيين التي لا تريد أن تغادرهم إلى الأبد، لقد تعامل القاص في قصصه هذه مع الألم بمزيج من الواقع المرئي والملموس وخليط من الخيالات التي يثيرها (ألم الأسنان نفسه عند بطل قصة تحت سماء القبّعات) وهذه مفارقة لعنة الألم الواقعي والمتخيَّل عندما يتَّحدان بضراوة، فمن جهة هناك ألم (الضرس) للشخص الذي يرتقي القطار في القصة الأولى من هذه المجموعة، ثم تشتغل المخيّلة السردية الباذخة، لتنقلنا في طريقة سلسة نكاد لا نشعر بها، كأننا نحن (القارئ) من يرتقي القطار، وهو الذي يرى آلافا من القبعات تتدلى من سقف القطار، قبعات بلا رؤوس، يا له من مشهد مفزع، هذه الصورة فيها إيحاء مذهل لثيمة الرؤوس الغائبة، وقد تكون رؤوس قتلى الحروب المتوالدة على مر الأزمان، لكنها الآن في لحظة وجود البطل في عربة القطار وهو الراوي الأول لأحداث القصة، تمثل الرؤوس التي يعرفها هو جيدا وقد يكون رآها بعينيه أو عاصرها بنفسه، ولهذا يمتزج الألم في دواخله ويتأجج، ليصبح ألما متخيَّلا ساحقا، ممزوجا بألم جسدي حقيقي ملموس (ألم الضرس الذي يعوي في رأسي كالذئب الجريح)، وقد يكون ضغط الألم البايولوجي هو الذي أعاد الراوي إلى هذا الحوار المؤلم بصورة لا يمكن وصفها، صورة إنسانية فنية مذهلة، صورة الألم العجائبي الغامض، صورة الألم الذي تعيشه ولا تستطيع أن تصفه، الشيء الذي يؤلمك ولن تراه، فيبقى متخفيّا لكنه من النوع القاهر، كما نقرأ في قصة (قبعات تحت السماء):
كانت أمي تقول لي في صغري وهي تفقد أسنانها سنّا بعد أخرى:
- تحاشَ أن ترِثَ مني ألم الأسنان. وتردفُ عن يقين:
- إن الألم يا بُني يورَّث أيضا. قلتُ لها ما لا أعي معناه في وقته:
- وهل أنتِ ورثتِ الألم؟... أكاد أسمع صوتها اللحظة:
- (كلنا ورثنا الألم، وآلامنا تختلف من شخص لآخر).
وأقول جازعا كأي صبيّ:
- (ولماذا أرث منك الألم وليس شيئا آخر). أسمعها تستغفر ربّها وتقول:
- لا تقل هذا يا بُني، العذاب مثل الرزق مقدَّر من الله. ص12
هل يمكن أن تكون الآلام قدرا مكتوبا لا يمكن للإنسان أن يتجنبه أو يتحاشاه حتى لو كان قادرا على ذلك، هذا ما تريد أن تنبئنا به هذه القصة التي لا تزال حتى بعد الانتهاء من قراءتها تقطرُ ألما، وهذا ما أكده بطل القصة حين قال:
(إن الألم بدأ يتمكن مني ويعبث بنظري) ص13.
نوع آخر من الألم نستطلعه بصورة أكثر إيغالا حين ننتهي من قراءة قصة (من بغداد إلى ديفالي) ص21، حتى يخيَّل لنا أن الآلام لها أنواع مختلفة، لا يكاد يربط بينها رابط مشترك، بطلة هذه القصة عراقية مهاجرة، تعتاد السفر إلى صديقتها (الهندية) سنويا لكي تعيش معها أجواء سعادة من طراز خاص، تحصل عليها رفقة صديقتها وهما يعيشان أجواء الاحتفالات الباهرة بعيد ديفالي السنوي، يصدمنا الألم بفداحة حين تخبرنا بطلة القصة العراقية بأنها فقدت الروح الإنسانية الأصيلة لتلك الصديقة الهندية المثقفة، وأن الذي كان يجمع بينهما قد انطفأ تماما، وهو ذلك الشعور الإنساني الذي يسمو على جميع الاختلافات البشرية (كالأفكار، والمبادئ، والأديان) وغيرها، لقد بزغ ألم من نوع أكثر شدة وفتكا من ألم الحرب، إنه ألم النزاعات التي تصدر من اختلاف الهويات والمعتقدات والأفكار، فطاغور الشاعر الهندي العظيم الذي جمع بين بطلة القصة العراقية وصديقتها الهندية، لم يعد قادرا على الجمع بينهما بشعرهِ الإنساني العظيم، حين وجدت الهندية دينا آخر غير دين طاغور الإنساني، وانطفأ وهج العلاقية الإنسانية السامية بين المرأتين (العراقية و الهندية)، وقد عادت بخفّي حنين، ورجعت في القطار الذي أتى بها لمدينة صديقتها، ولكن الفرح الهائل الذي كان يملأ صدرها على أمل أن تحتفل بعيد ديفالي مع الهندية كما في كل سنة، تحوّل إلى ألم مدلهمّ يغصّ به صدرها ليرغمها على الصعود في قطار العودة المعبّأ بآلام البشرية كلها.
في هذه القصة أيضا، يدهشنا فاتح عبد السلام بتلك المحايثة المفاجئة التي حصلت بين مشهدين الفارق الزمني بينهما قد يصل إلى عقود من السنوات، فحين هبطت بطلة القصة في محطة القطار قاصدة لقاء صديقتها الهندية التي كانت في السنوات الماضية تستقبلها بنفسها بالمحطة، صُدِمت بعدم استقبال صديقتها لها، وفي الوقت نفسه سطعت السماء بالألعاب النارية ومفرقعات الاحتفال بعيد ديفالي وبدلا من أن تبتهج العراقية بهذا المنظر السعيد المتلألئ عادت بها ذاكرتها إلى السماء العراقية المحروقة بالانفجارات والمقذوفات التي ملأت قلوب العراقيين رعبا وآلاما، هذه المقاربة ما بين مشهدين الفارق الزمني كبير بينهما، تسجل لمحة فنية ترتفع بالمستوى السردي الباهر لهذه القصة، وتؤكّد أن القاص يتناول الألم من زاوية بالغة التأثير على القارئ.
تتكرر المقاربة الفنية بين مشهدين احدهما غائر في سنوات ماضية، والآخر يعيشه الآن بطل قصة (العراقي الذي حرّر لندن)، هذه المقاربة تحدث بين مشهد الاضراب في إحدى محطات سكك الحديد في لندن، وبين أوامر نسف أحد الجسور المؤدية إلى بغداد حتى لا تدخل منه القوات الأمريكية إلى بغداد إبان الحرب على العراق، وتوجد مقاربة بين شخصيتين أحدهما (مايكل) قائد إضراب عمال السكك الحديدية والآخر هو رئيس عرفاء عراقي يأمر جنوده بنسف الجسر حتى يمنع قوات الاحتلال من دخول بغداد، الفارق الزمني بين الشخصيتين يصل إلى عقود، لكن التشابه بينهما يحضر في تحجّر الوجهين وقسوة الملامح (مايكل، ورئيس العرفاء) وصلابة المواقف ونزعة الأوامر التي تصدر منهما، وما بين هذيْن المشهدين يضجّ الألم العراقي حتى تكاد تسمعه بسبب قوَّته وأساه الأشدّ، حين يقول الجندي بطل القصة عن رئيس العرفاء:
(كانت تلك آخر كلمة نسمعها منه، لم نرَهُ ونحن نجتاز الجسر، كانت أقدامنا تتعثر في الظلام بجثث جنود وبنادق معطوبة، ورائحة الموت تطبق على أنفاسنا اللاهثة. لحظتها علمتُ أن لا أحد بعد الآن يصدر لنا الأوامر ونحن نقطع الطريق بطوله نحو بغداد، لم يكن رئيس العرفاء بيننا حين وصلنا الفجر إلى بدايات حدود بغداد، تركناه خلفنا، ونسيناه في ذلك المكان الموحش تماما في ذلك اليوم، ولم يخطر في بالي مجرد خاطر أنني سأتذكره يوما، لكن تبيَّن لي أنني كنتُ واهما طوال هذه السنين، إذ كان العسكري كامنا في رأسي، تظاهرتُ مرارا أنني نسيته، وكان من دون رقابة مني، يتحرك في أعماقي بخطواته المتراصة وبلباسه العسكري المرتَّب في أقسى ظروف القتال، كما كان يفعل دائما، يصرخ.. يصرخ، حتى أشعر أن ثقلا كبيرا انزاح عن كاهلي) ص57.
أما في قصة الرغبات المتكسرة، فيستعيد فاتح عبد السلام بلغة يتكلّم بها عامة الناس، من جنود وباعة متجولين وسائقي حافلات كبيرة وأطفال يبيعون الماء البارد في عزّ الحَر، يستعيد أجواء الحرب، وما يتعرض له المقاتلون من آلام وتعب كبير، تعوّدوا عليه وصاروا يتعاملون معه كأنه لن يزول إلى الأبد، لكن الجانب الآخر من السرد يتسلل إلينا (القرّاء) بهدوء شديد، ليقصّ لنا تلك الرغبات المتكسرة التي تغصّ بها صدور الجنود وهم يصعدون الحافلات أو القطارات باتجاه مدنهم وأحلامهم على حد سواء، فأية مفارقة تلك التي يعيشها هؤلاء الجنود وهم يحلمون بلحظة بعيدة عن خطر الهجوم الوشيك على الجبهات التي يربضون فيها، وأي تفاصيل تلك التي نعثر عليها في نسيج السرد حيث (فرق الإعدام) والاجازات الدورية، والقصف المتواصل، والقلق الهائل من الهجومات على مدينتي البصرة والعمارة، فضلا عن مشقّة عودة الجندي مجازا من وحدته في البصرة إلى عائلته في الموصل، عذابات لا حدود لها، وآلام قد لا تخطر على بال، نجدها في هذه القصة التي ترسم الرغبات المتكسرة للإنسان في زمن بات مطمورا تحت سنوات طويلة لكنه لا يزال حاضرا.
الخلاصة ما يمكن أن يُكتَب عن قصص (قطارات تصعد نحو السماء) لا يمكن أن يكتمل بألف أو ألفيّ كلمة، لما تعجّ به أجواء هذه القصص من وقائع وأحلام ومصائر تتوزع على خرائط زمنية وجغرافية لا يمكن أن تُحصَر بزمان أو مكان، كونها رغبات وآلام وأمنيات ومصائر الإنسان أينما كان وفي أي زمان، لقد كانت رحلة مضنية تلك التي قضيتها مع قصص هذه المجموعة، مضنية بالآلام التي تتدفق من رؤوس وأفواه أبطالها، وفي نفس الوقت مضنية بمقدار الجهد السردي الفني الواقعي المتخيَّل الذي قدمه فاتح عبد السلام للقارئ، إنها باختصار قصص صاعدة إلى شغاف ذاكرة الألم بامتياز لا يتكرر.
اضف تعليق