q
قالت له أمه، أرغب أن أراك متزوجا قبل أن أموت، كان يعرف ما كانت تريد قوله بالضبط، أريد أن أراك متزوجا قبل أن تموت في الحرب! صحح عبارتها مع نفسه، معادلة لفظية قاسية، تجيد حلّها الأمهات، هكذا ردد العبارة بصمت، ثم قبّل رأس أمه وغادر البيت...

هو في اغفاءة هانئة تماما، منذ ان غادره منكر ونكير معتذرين، إذ لم يجدا في سجلّه ما يدعو الى الإزعاج الذي حصل، لم يعد هناك موعد لإنتهاء اجازته المطلقة هذه، ولم يفكر في أي شيء ينغص عليه هذا الاطمئنان الذي لم يشعر بلذة شبيهة له من قبل، حين اقبلت عليه تلك المرأة بدت له، لأول وهلة، اشبه بطفلة كبيرة تمرح وتتلو الأناشيد التي ايقظت ثمالة حماسة بداخلة، وعندما حدّق بوجهها وجدها كالمومياء، بلا ملامح.

إحتضنته بقوة فشعر بأن يديها أشبه بذراعين حديديين أطبقا على عظامه قالت؛ أنا أمك الحرب وها قد مرّ عام على ولادتك وأردفت؛ أنا اتفقد أولادي بإستمرار في آخر إجازة له وقبل أن يلتحق بوحدته، قالت له أمه، أرغب أن أراك متزوجا قبل أن أموت.

كان يعرف ما كانت تريد قوله بالضبط، أريد أن أراك متزوجا قبل أن تموت في الحرب! صحح عبارتها مع نفسه.. معادلة لفظية قاسية، تجيد حلّها الأمهات.. هكذا ردد العبارة بصمت، ثم قبّل رأس أمه وغادر البيت.

كان ذلك قبل عام... في الطريق اليه أو الى قبره، كانت أمه تحمل الكثير من قناني ماء الورد وأنواعا من العطر الذي كان يحبه... احتضنته أمّه الحرب أو المومياء حتى غدا كيس عظام وسطها وهي تلتف حوله كالأفعى، وراحت تهمس بإذنه، لقد كانت ولادتك مؤلمة واتعبتني، لقد وزّعت ثلاث شظايا على جسدك في تلك الليلة حتى تمكنت من وضعك، لقد ولدت حينها أخوة كثيرين لك، كانت ولاداتهم اسهل بكثير.

أخذ يشعر إنه اشبه بالجنين في البطن الجافّة المظلمة لهذه المومياء حتى كاد يتلاشى فيه تقريبا، وهي مازالت تحتضنه وتحدثه عن لحظة ولادته التي كانت في ليلة عاصفة ممطرة، اشتد بها القصف قبل ان يجد نفسه في ذلك المخاض، او هكذا قالت له أمه الحرب التي كانت تناديه.. ولدي العزيز!

وسط مشاعر الخوف الذي اقتحم اطمئنانه، كان يشعر بهمس ممزوج بنشيج هادئ، يتسلل اليه ويخفف من وطأة المشاعر القاسية التي يكابدها، همس يشبه موجات ريح خفيفة عذبة، يأتيه من مكان مرتفع، ممزوجا بعطر ماء الورد والعطور الاخرى التي كان يحبها.

وحين اكتظ المكان بذلك العطر الأخّاذ راحت أمه الحرب تمارس الطلق، تماما كما لو انها تلده من جديد حتى شعر انه يخرج تدريجيا من رحمها الجاف المظلم، فيما هي راحت تنسل بخفة وتتركه، ربما لتتفقد إبنا آخر لها... وعلى شاهدة القبر التصق خدّ امه المبلل بالدموع وقد اخذتها اغفاءة قصيرة، تذكرت فيها يوم ولادته التي ملأت البيت فرحا.. وآخر أيام اجازته.. قبل أن تلده أمه الحرب في ليلة اخرى مرّت ذكراها اليوم، وجمعت الأميّن.. في مكان ثالث عند وليدهما .. معا!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق