إذا جاز لنا أن نقسّم تاريخ الأدب العراقي إلى مراحل أو محطات، في الجانب المتعلق بالقصة والرواية خاصة، فإننا نتوقف عند أربع محطات رئيسة، عكس خلالها ملامح كل مرحلة وحاول أن يعبر عنها، وفقاً لاجتهاد كل قاص أو روائي...
إذا جاز لنا أن نقسّم تاريخ الأدب العراقي إلى مراحل أو محطات، في الجانب المتعلق بالقصة والرواية خاصة، فإننا نتوقف عند أربع محطات رئيسة، عكس خلالها ملامح كل مرحلة وحاول أن يعبر عنها، وفقاً لاجتهاد كل قاص أو روائي.
كانت الأولى مرحلة التأسيس التي رافقت إطلالة العراق المعاصر على العالم بعين أخرى، بعد أن بات دولة بمؤسسات حديثة تعبر عن واقع بلاد خرجت من أتون نحو 6 قرون من الضياع، وألقت بظلالها الكثيفة على حياة الناس بشكل عام.
غني عن القول أن بدايات فن القصة والرواية كانت على يد جيل محدد من الرواد، في مقدمتهم محمود أحمد السيد الذي أصدر أول رواية عراقية بعنوان «جلال خالد» عام 1928، بث خلالها أسئلته الوجودية حول الإنسان والموت والحياة وفقاً لما عايشه وتأثر به من أفكار عصره.
بعد ذلك، توالت الأعمال الروائية والقصصية التي عبّرت عن واقع العراق في مرحلة الحكم الملكي الذي أنضج واقعاً ثقافياً مغايراً، نتيجة ظهور طبقة وسطى ووسط ثقافي وصحافي انشغل بالهم السياسي، في محاولة لإصلاحه بعيداً عن المؤثرات العقائدية الحادة، وإن كانت موجودة لكنها ظلت محدودة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، التي تمثل أيضاً المحطة الثانية في حياة الأدب العراقي.
ولقد اتسمت المحطة الثانية بالصراع الآيديولوجي الذي كان ينهل من طروحات عالمية وعربية، كالماركسية والوجودية والقومية بمختلف اتجاهاتها، لا سيما في العقد الستيني، تركت أثراً على مجمل النتاج الإبداعي العراقي، ومنه القصة والرواية، ونادراً ما وجدت رواية أو قصة غير متضمنة لتلك الأفكار.
صار الأدب في تلك الحقبة ميداناً لصراع المثقفين والمبدعين العراقيين، وعاكساً لتوجهاتهم أيضاً.
أما المحطة الثالثة، فهي مرحلة الحرب والحصار في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهذه تحتاج إلى وقفة طويلة لأن قراءتها من الخارج ستكون غير منتجة بالتأكيد، كونها مرحلة مركبة ومحتدمة، فالحرب يرفضها أي إنسان سوي من حيث المبدأ، لكن الاختلاف ظل يدور حول مبررات الحرب والهدف منها، غير متناسين أنها اندلعت بعد فترة عصيبة عاشها العراق على خلفية انهيار الجبهة الوطنية التي ضمت الأحزاب الرئيسة في العراق، كالحزب الشيوعي و«الديمقراطي الكردستاني»، إضافة إلى الحزب الحاكم (البعث). وما تركته هذه الانتكاسة السياسية من آثار في النفوس، وتحديداً في نفوس المبدعين المختلفين ممن يمكن وصفهم بالمعارضين.
وفي العموم، كان كثير من نتاج تلك المرحلة، أقصد مرحلة الحرب، تعبوياً، وهناك أدب سياسي قد يكون بعضه اقترب قليلاً من التعبوية، لكنه حافظ على رصانته وحمل كثيراً من سمات الإبداع المطلوبة، وظل مؤثرا حتى الآن. ومع ذلك، لم تخل تلك المرحلة من إنتاج أعمال قصصية وروائية تستحق التوقف عندها، حتى إذا ما جاء الحصار، الذي يعد مكملاً لمأساة الحروب وناتجاً لها، فإن الأدب العراقي زخر بكثير من الأعمال التي وقفت طويلاً عن هذه الموضوعة، وتشظت بينها معالجات المبدعين تحت تأثيرات سياسية وثقافية مختلفة، إلا أن أغلبها ظل يرصد هذه المسألة من الخارج، أو يتفاعل مع إفرازات الحصار بعين فوتوغرافية، حاولت الكلمات أن تضيف إليها، وكان هذا بين نجاح وإخفاق، لكن في العموم يمكن عدّ هذا الأدب صورة لمرحلة مثيرة من تاريخ العراق، لكنه قد لا يكون معبراً عنها بالشكل المطلوب.
المحطة الأهم والأبرز، في اعتقادنا، هي مرحلة الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وتداعياته، أو مرحلة ما بعد التغيير، كما يطلق عليها المحايدون، إذ تميزت بزخم غير مسبوق في عدد الإصدارات وعدد الروائيين والقصاصين، وكان لهذا الحضور اللافت، ليس عراقياً فحسب بل عربياً وحتى عالمياً أيضاً، أسباب عدّة، منها أن مرحلة الحصار التي ضاقت خلالها السبل أمام المبدع العراقي من أجل نشر ما لديه، بسبب الضائقة المالية وقلة منافذ النشر التي توقف معظمها، وكذلك تعكّر المزاج العام للناس، وانحسار القراءة إلى حد ما، وصعوبة نشر المخطوطات في دار النشر الحكومية الوحيدة كونها تنطوي على ما يتعارض مع شروط النشر، سواء لأسباب سياسية أو غيرها، فضلاً عن تراكم أعداد كبيرة من الأعمال الإبداعية وبقائها على الرفوف بانتظار الفرصة لنشرها. وحين أتت تلك الفرصة، تسابق المبدعون على نشر ما لديهم، وكان في معظمه حافلاً بنقد المرحلة السابقة، من دون أن ينطوي على رؤية عميقة في معالجة المأساة التي وقفت وراءها جهات عدة، خارجية وداخلية. وهكذا، اكتظت المكتبات بالأعمال المكتوبة قبل الاحتلال، تعالج قضايا تلك المرحلة وفقاً لرؤية أصحابها الذين استنفد أغلبهم ما لديه من حمولة بعملين أو ثلاثة قبل أن تتضح ملامح المرحلة الجديدة، أو تداعياتها، التي كانت قاسية ومحبطة بكل ما تعنيه الكلمة.
لم تكن إسقاطات الحرب والحصار والاحتلال وحدها هي الثيمة المهيمنة، بل دخلت على الخط ثيمة أخرى تستحق التوقف عندها لأكثر من سبب، هي الكتابة عن الأقليات الدينية والعرقية في العراق، أو بالأصح ما جرى لها، ابتداءً من هجرة اليهود مطلع الخمسينات، وصولاً إلى سنوات الاحتلال وما شهدته من أعمال إرهابية بحق المسيحيين والإيزيديين والصابئة وغيرهم، إلا أن هذه الكتابات لم تكن جميعها بريئة، أو جاءت بقصد تسليط الضوء على أحداث مهمة من تاريخ البلاد.
نعتقد، وقد يثير ذلك حفيظة البعض، أن هناك أيادي خفية تسللت إلى المشغل الإبداعي العراقي، وتحديداً في ما يتعلق بتهجير اليهود.
لقد صدرت أكثر من رواية عراقية شممنا بين سطورها رائحة الإدانة للشعب العراقي، أو كأنها مكتوبة لهذا الغرض، وتحميل الشعب مسؤولية تهجير هذه الشريحة من المجتمع التي يعرف الجميع أن قرار ترحيلها وإسقاط الجنسية العراقية عنها جاء من بريطانيا خلال العهد الملكي الضعيف، بعد قيام إسرائيل.
وفي زاوية محددة، بدت هذه الروايات وكأنها تسير في سياق حملة شاملة استهدفت الشخصية العراقية، من خلال بعض الأعمال الدرامية والسينمائية. ووقفت وراء كل هذا أياد خفية تعمل في إطار الحرب الثقافية والصراع الرمزي الذي يعقب الصراعات الكبرى، ويعمل على تكريس نتائجها.
لقد أفرزت مرحلة ما بعد 2003 أسماء عدة مهمة في الرواية والقصة القصيرة، لعل أبرزها علي بدر الذي بات اليوم من ألمع الروائيين العرب، وأحمد سعداوي الذي حصد جائزة «البوكر» لعام 2013، وأسماء أخرى يصعب حصرها، إذ صدرت خلال سنوات ما بعد 2003 أكثر من خمسمائة رواية، وقريباً من هذا العدد مجاميع قصصية، الأمر الذي دعا منظمة اليونيسكو أن تختار بغداد عاصمة للإبداع العربي لعام 2015، لغزارة الإنتاج والقيمة الإبداعية لأغلبه.
ولعل رواية «فرانكشتاين في بغداد» من أبرز الأعمال التي انشغلت بثيمة ما بعد الاحتلال وتداعياتها التراجيدية.
ويمكن القول إن أغلب الروائيين والقصاصين العراقيين بدأوا الآن بالتحرر من سطوة الآيديولوجيا التي طبعت نتاجاتهم، ليس بالضرورة لتحول فكري أو سياسي، بل لعدم استجابة القارئ لهذا النوع من الكتابات، لأن منطقة جديدة خصبة تترك المجال لتأمل أوسع في مفردات الحياة، منطقة خلفتها وراءها رحلة البلاد القاسية التي تركت للمبدعين كثيراً من الأفكار التي عادة ما يلتقطها المبدع ويعيد إنتاجها برؤيته الشخصية.
اضف تعليق