حدثني والدي، نقلا عن جدي الذي روى له الحكاية، وقد اوصاه بان ينقلها الينا، نحن ابناءه .. حدثني عن رجل نحيف، طويل نسبيا، يرتدي ملابس غريبة، يقال انها تعكس اشكال اللباس المختلفة في البلاد، حينذاك .. يسير في الشوارع كل يوم، متأبطا رزمة من اوراق صفر، متآكلة الحواف، يضمها الى صدره احيانا، واحيانا اخرى، يتركها مع يده المرتخية بعد ان يعييه التعب، والتجوال بين المحاكم .. الرجل يتابع قضية ارث قديم، تركه له اجداده، لكن قضيته لم تحسم، على الرغم من مرور زمن طويل عليها، اذ يقال ان والده وجدّه اوصياه في متابعتها، بعد ان فشلا في حسمها قبله.
لا احد يعرف بالضبط ماهية الارث، او شكله ونوعه، لكن البعض ممن شغلتهم قضية الرجل وحكايته الطويلة، يقولون، انه ربما يكون بيتا او قطعة ارض او مزرعة او ذهبا، وربما ايضا مكتبة تضم نفائس كتب قديمة.. احد الشيوخ ممن كانوا يتابعون قضية الرجل، قال؛ ان الارث يحتوي على كل هذا، لكنه استدرك وقال؛ ربما كل هذا مجرد وهم وضعه البعض في راس هذا الرجل المسكين، كما وضعوه في راس اسلافه من قبل، وجعلوهم يدورون بين البيوت والمحاكم، ليصلوا الى راس خيط يوصلهم الى ارثهم المفقود.
فقد الرجل ثلاثة ارباع عمره وهو على حالته هذه، وكثيرا ما كان يقول للناس في لحظات تذمره؛ أيّة مهمة ثقيلة هذه التي ورطني بها ابي؟ .. فمنذ ان فتحت عيني على هذه الدنيا، جعلني اعيش حلم الحصول على الارث الذي لم يبين لي ماهيته بالضبط .. ارث كبير ومهم .. هذا ما كان ابي يقوله لي ويؤكد باستمرار، ان جدك ايضا كان يبحث عنه، ولم يستسلم او تفتر حماسته، وعليك ان تكون وفيا لاجدادك وتحصل على ارث العائلة.
في احدى المرات قال له احد المحامين الشيوخ، وامام جمع من الناس؛ ان اوراق قضيتك غير منسجمة مع بعضها، وان أي محام مهما كان ذكيا، لن يتمكن من كسبها وعليك ان تعرف هذا .. لم يحبط الرجل ولم تفتر همته، بل ظل يواصل بحثه عن ارث العائلة، الذي تحوّل لديه الى قضية العمر التي يهون دونها كل شيء ...
في احد الايام، وبعد ان عاد من تجواله متعبا، اراد ان يعيد قراءة اوراق القضية بعناية، لعله يعيد ترتيبها بدقة، كي يسهّل على المحامين مهمتهم، لكنه كلما حاول، اصيب بالدوار، فالاوراق قديمة جدا، ومكتوبة بلغات متعددة، بعضها منقرض لايمكن فهمه، وبعضها الاخر غير واضح الحروف، او جملها مرتبكة .. اما مكان الارث، فغير واضح على الخارطة المرسومة بارتباك، لاسيما انه يتحدث عن اشياء كثيرة تعود لعائلة تشتت ابناؤها منذ زمن بعيد جدا، وصارت للابناء والاحفاد عوائل كبيرة سكنت اماكن متباعدة، وبات اغلبها يتحدث بلغات لاتشبه احداها الاخرى، لكن الرجل الذي ظل يدعي بانه الممثل الشرعي للعائلة، وراس ارومتها الكبيرة، لم يعترف بهذا، وظل يقول، انه مؤتمن على وصية الاجداد التي لامناص من تنفيذها، وإن افنى عمره كله لاجل هذا.
اكثر من محكمة مرت عليها تلك القضية الشائكة، ولم تبت بها أي منها لعدم تكامل الاوراق او عدم وضوح ما مكتوب فيها، الامر الذي جعل هذا الارث عبئا ثقيلا على الرجل، الذي وجد نفسه منذ الصغر ينوء تحته.
في احد صباحات مراجعاته، وحين كان يهم في تقديم اوراق قضيته لاحدى المحاكم، وجد هناك شخصا اخر يشبهه تماما، لكنه يتكلم لغة اخرى، تقدم منه وسلّم عليه، وحين اشاح هذا بوجهه عنه، ارتبك .. حاول ان يتفاهم معه، لكن محامي الرجل الاخر منعه، ما زاد من ارتباكه، الاّ انه اصر على معرفة الرجل الشبيه، وبعد تودد وتوسل، عرف انه من ابناء ارومته ايضا، وانه يبحث عن الارث نفسه، لكن الذي اذهل الرجل الاول، قول الرجل الثاني له، ان رجلا ثالثا، يطارد القضية نفسها، وان الارث بات متنازعا عليه بين الثلاثة .. اصيب الرجل الاول بما يشبه الصدمة، وبتصرف لا ارادي ضم اوراق القضية الى صدره بقوة، كمن يخشى سرقتها او خطفها من قبل الرجل الذي بات منافسا له على ارث يرى نفسه الأحق به منه .. الشيء الذي ود معرفته هو اللقاء بالرجل الثالث، فالمسالة تعقدت اكثر، وانه لم يعد الوريث الوحيد، وبات فضوله لمعرفة الشخص الثالث كبيرا ..
عندما عاد الى البيت مهموما، وقف قبالة صورة كبيرة للجد الذي غامت ملامحه بفعل السنين، وقال بصوت متهجد فيما لم يستطع حبس دموعه؛ أي ارث هذا الذي اورثتني إياه ياجدي؟ .. وحين حاول مسح دموعه قبالة صورة الجد، سمع طرقا قويا على الباب، باب البيت العتيق الذي لم يبق للعائلة بيت غيره، اتجه الى الباب وشيء من الخوف تسلل الى قلبه .. كان الرجل الذي يقف امامه بعد ان فتح الباب، جده ، ووراءه يقف ابوه، وقد حنيا راسيهما، لانهما شعرا بالحرج لما سبباه له من متاعب.. ظل للحظات ذاهلا لايتكلم، لكن الجد بادره بالقول؛ انهما لايتركانك .. سيكونان منافسين قويين لك على الارث، ثم مدّ اصبعه المرتجف نحوه ووضعه بين عينيه، وقال؛ اياك ان تضعف وتتركه لأي منهما .. ارتبك ولم يجد الكلمة المناسبة للرد .. لكنه، وكمن ينتبه من حلم عابر، وجد المنافسين واقفين امامه، يرومان الدخول للتفاهم بشان الارث .. تردد في ادخالهما، لكنهما دخلا من دون استئذان، ومن دون ان يكلماه باي شيء راحا يتجولان في ارجاء البيت القديم .. صامتان، ينظران بين لحظة واخرى الى بعضهما، ويقول احدهما للاخر عند توقفهما امام كل لوحة او قطعة اثاث، ان هذه من ارث عائلتي! لم يمنعهما من الكلام، ولم يعارضهما على راي يقولانه، بل ظل يجاريهما في تجوالهما، اذ كان ثالثهم يتجول بين ارجاء البيت القديم، وكإنه لم يره من قبل .. كل شيء في البيت بال، وغير صالح للاستعمال او البيع ... وبعد ان اعياهم التجوال جميعا، جلسوا ليشكلوا مثلثا وسط البيت الذي صار يدعي كل واحد منهم انه له أو إرثه، لانه يطابق ما لديه من مستمسكات عنه .. ولكي لايتقاتلوا وسط البيت، اقترح احدهم اعادة ترتيب الاوراق التي بحوزة كل واحد منهم، لكي يهتدوا للحقيقة .. كان الجهد كبيرا حقا، واستغرق وقتا طويلا، لايعرفون بالضبط عدد ايامه او شهوره وسنينه ، لكنهم في النهاية اكملوا ترتيب اوراق قضية كل واحد منهم، واكتشفوا ان المعاني في اوراقهم متشابهة، ولعل الارتباك وتداخل الاوراق، تسبب به الاجداد بعد معركة على ارث ابيهم، او جد العائلة الاول، بعد وفاته، قبل ان تتشتت عائلته وتتوزع بين اصقاع الارض ..
مالم يذكره جدي لابي، وتتحدث به الناس. ان الاولاد والاحفاد، صاروا اثر انقسامهم بعد تلك الواقعة القديمة، يلتقون على شكل جماعات، ورثت ذلك العداء القديم، في ايام اختاروها لكي يتجنبوا التصادم، فمنهم من اختار يوم السبت من كل اسبوع، ومنهم من اختار الاحد، فيما فضل الاخرون ان يكون لقائهم يوم الجمعة .. ايام يستعيدون فيها مجد العائلة التي شتتها حادث قديم، ترى كل فئة، ان ابناء الجد الآخرين، هم من جحدوا فضله، وادعوا حقهم وحدهم في ارثه .. وايضا يتدارسون سبل استعادة حقوقهم من هؤلاء الذين باتوا خصوما، بعد ان تقادم الزمن على اخوّة أكل روحها الطمع وقطّع حبالها الزمن وتقوّلات الحاسدين.
لم يلحظ احد بعد ذلك، الرجل النحيف الطويل، اذ اختفى مع رزمة اوراق القضية التي حسمت بصمت منذ زمن، لكن حكاية حسمها التي حصلت خارج المحاكم، صارت موضع تنازع بين المدونين والمؤرخين، وظلّ حلّها غائبا .. وان رجلا يشبه تماما ذلك الرجل النحيف اخذ يتردد على المحاكم من جديد، متأبطا رزمة اوراق متهرئة، ويتحدث عن ارث قديم لااحد يعرف بالضبط .. ماهيته.
اضف تعليق