q

ثمّة عصر جديد يتشكل في الغرب، غير الذي نظر له يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما في 1989، قبل أن يصدر في كتابه 1992، عن "نهاية التاريخ"، فانتصار الغرب الحتمي يستعاض عنه، في هذه الأيام، بحديث آخر عن مأزق يمكن أن يؤدي به إلى هزيمة كبرى، ومتدرّجة. يرى فوكوياما، أخيراً، الواقع الغربي باعتبار أنه "بدأ بالانهيار". وأياً تكن قيمة حجج هذا المنظر لهيمنة الفكرة الرأسمالية الغربية وقوتها، مع غيره من مثقفي عصر الزهو، في نهاية حقبة الثمانينات وجل التسعينات، والتحولات الكبرى في أوروبا، فإن ثمّة حقائق ليس اكتشافها حكراً على الرجل.

ما نعيشه في اللحظة التاريخية الراهنة هو نتاج تغيراتٍ وتراكماتٍ لأزمة مجتمعاتٍ غربيةٍ (وبعضها في الفكر وصميم ثقافة الانفتاح الإنساني التي تتحلل) تُنتج خروجاً بريطانياً من الاتحاد الأوروبي، وهبوب تياراتٍ من انقساماتٍ تهز تلك المجتمعات، مع صعود تيار ترامبي قوي في أوروبا، بالتنظير لشرعنة تقدّم يميني قومي فيها.

نحن أمام عصر جديد، ينخر في النخاع الشوكي لما بدا رسوخا للمأسسة في أميركا وأوروبا، والثقة الجماهيرية بذلك. وبالنسبة لفوكوياما فإن "العقود الثلاثة الماضية أظهرت انهيار الثقة بالمؤسسات. ويمكن ملاحظة ذلك في الولايات المتحدة، سواء تعلق الأمر بالكونغرس أو الإعلام أو الأحزاب السياسية". ويحدث شيء مماثل في أوروبا، ففي العقدين الأخيرين، كانت المؤسسات، النقابية والكنسية والحزبية الجماهيرية، عماد قوة المجتمع. اليوم، وبنظرةٍ سريعةٍ إلى ما تعيشه أوروبا، فإن "أحزابا كـ "الديمقراطيون المسيحيون" و"الاجتماعيون الديمقراطيون" و"الشيوعيون"، وكل الذين شكلوا حالةً من المجموعات الاجتماعية قوية التنظيم، ينهارون ويستعاض عنهم بشعبويةٍ تكتسح".

"ربما تكتشف نخب أوروبا، من يمين ويسار الوسط، متأخرةً، خطأها الفادح في زمن اكتساح الغوغاء والشعبويين الحياة العامة والبرلمانات"

الحقائق مغيبة

في كثير من هذه المجتمعات، تلعب الحقائق اليوم دوراً أقل من السابق. وبدلا من ذلك، ثمّة انتقال إلى مجتمعات ما بعد الحقائق. شواهد كثيرة تقفز أمام من يلحظ التحولات العميقة، فالجمهور الغاضب يشتري بسهولةٍ الوعود الشعبوية لحلول سهلة لمسائل معقدة.

لفوكوياما نظرة في هذه التحوّلات، إذ يرى أن الغرب شهد بعد 1945 "قطعاً مع طيفٍ سياسيٍّ فاشي وشيوعي، بالاختفاء من ساحة العمل السياسي، وحيث جرى التركيز على هيكيلة الوسط لإيجاد استقرار سياسي، بتوافق الآراء حول الديمقراطية ومؤسساتها القوية خمسين سنة". والتعبيرات صارخةٌ عن هذه التحولات، حيث يختلط غضب الناخب الغربي من النخب، مع توجس مما يحمله المستقبل من ضماناتٍ على مستويات اجتماعية عديدة، تتضح في نتائج صندوق الاقتراع "في شمال أوروبا وفرنسا تحديداً"، وفقا لفوكوياما.

في هذه الحالة (ألمانيا أخيراً على سبيل المثال) ينتقل الناخبون من يسارالوسط إلى اليمين، تعبيرا عن الغضب من "خطاب الأحزاب التقليدية وعدم ثقة بهيكلية السلطة القائمة". وربما لا جديد في مشهدية الانتقال من الوسط نحو اليمين، سوى أن الأمر بات أكثر تظهيراً لما يطلق عليه فوكوياما "نزع المأسسة عن الغرب". ويترافق ذلك مع تصدّع وفوضى وعجز ونشوء فكرة ترفض "وجود حقيقة مسيطرة، يتفق عليها المواطنون".

إذن، هي انهيارات تشهدها أوروبا في "الوسط". ويبدو الأمر جلياً عند اليسار "لم يعد هناك يسار وسط، كما عرفته الهيكلية السياسية الأوروبية. الآن، هناك تشظ وانتقال إلى الشعبوية الجديدة".

فكرة انتصار الرأسمالية، باعتراف أحد سدنة المبشرين به، في حالة هزيمة، أو كما يقول "بداية انهيار". سقوط الاتحاد السوفييتي أنهى عند فوكوياما، ومثقفي الرأسمالية آنذاك، ما سموه "الصراع الأيديولوجي"، وبشّرونا بأن اقتصاد السوق أفضل مع الليبرالية الديمقراطية الغربية بانتصار لحقوق الإنسان.

وربما في فحوى الشعار الأخير، وهو ما لم يقله فوكوياما الذي يبدو أنه يتغير في الثالثة والستين من عمره، رأينا كيف عرّى الغرب نفسه تماماً في قضيتي الربيع العربي واللاجئين. أما داخليا، فقسوة المزايدة بين يسار ويمين الوسط والشعبويين فهي تنتج مشهداً "مرعباً" تحصل في داخله هزيمة ذاتية.

يمر الجدل الفكري والسياسي الغربي هذه الأيام، عند مستويات النخب في مجتمعاته، بشعور من الرهبة والارتباك. الرهبة من "الانحلال السياسي" (وهو عنوان كتاب فوكوياما في 2014)، ترافقه حالة رعب من فقدان الاستقرار الذي عول عليه كثيرون لتسويق نوعٍ من التفوق الغربي على غيره. ولا جدال في أن الاستقرار شرط للتقدم والرفاهية. لكن، هل الاستقرار يحقق ذلك دوماً، على النحو الذي نشاهده في روسيا، مثلاً؟

ويبقى من المهم أن يجيب أمثال فوكوياما، ومثله ربما بعض المتبنين العرب لأفكاره، على سؤال البدائل التي تطرح في طريق إنساني طويل من صراعٍ لا ينتهي. هل تشكل روسيا الغارقة اليوم في وهم كبير، وتعتاش على أكاذيب فجّة، حقا بديلا؟

في دورة أخرى من تبادل واهم لعلاقة "شمال - جنوب"، من الضروري بمكان التدقيق في عمق مآزق روسيا، داخليا وفي سورية، وعلاقتها بمحيطها الغربي. وهو ما يكشف أيضاً وجها آخر عن التشدّد القومي تحت يافطة "الديمقراطية" أيضا، في تبادل كراسي فلاديمير بوتين وديميتري ميدفيدف، منذ بشر فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" (1992) بانتصار الغرب ونهاية التاريخ.

"على الرغم من أننا، نحن المتلقين، نكاد نغرق في تدفق هائل للمعلومات بشأن قضايا عديدة، إلا أن المدقق لما يعيد السياسي الشعبوي طرحه سيصطدم باستساغة اتهام هيلاري كلينتون وأوباما بأنهما صنعا تنظيم داعش"

الشعبوية مدخلاً كارثياً

نحن على أعتاب حقبة جديدة من التعبئة الشعبوية، وفي حالات كثيرة، تنتشر بلا فوارق بين شرق وغرب وشمال وجنوب. فانتشار هذا النوع من الشعبوية يذكّر البشرية بثلاثينات القرن الماضي، فكم كانت خطورتها، حين تختلط بوضع اقتصادي سيئ وغضب من النخب؟ بالنسبة لفوكوياما، تكمن الخطورة في أن تلك الحقبة من الشعبوية "جعلت البشرية أمام هتلر وموسوليني في أوروبا وفرانكلين روزفلت في أميركا".

تأمل المشهد اليوم، من الفيليبين، مع رئيسها رودريغو ديوترتي، إلى مصر، ومرورا بالعراق وشرق أوروبا، وخصوصاً في المجر مع فيكتور أوربان، وروسيا، بخطاب قوميٍّ متشدّد، وصولاً إلى شمال أوروبا الإسكندنافي، حيث تتقدّم أحزابٌ شعبوية في السويد والدنمارك، وألمانيا، مع تقدّم "البديل" الشعبوي، ستبدو الصورة الشعبوية لدونالد ترامب مشرعةً على احتمالاتٍ اجتماعيةٍ وفكريةٍ ليستا سارتين للبشرية.

في السابق، كان فرانسيس فوكوياما بروحٍ محافظة (فشهرته تأتت بإعلانه الانتصار على يوتوبيا الشيوعية)، لكنه تغيّر بالتدريج، مع اكتشاف أوهامٍ كثيرة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، وانتقالهـا بعد عام، إلى التدريس في الدنمارك، وبداية تبشيره بـ"النموذج الدنماركي"، والغريب أن المرشح الرئاسي الأميركي (اليساري)، بيرني ساندرز، ذهب في الاتجاه نفسه.

ويحاجج فوكوياما، في "فورين أفيرز"، (يونيو/حزيران 2016) بما يعنيه بالسقوط والانحلال السياسي الذي يشهده الغرب في "العصر الرهيب" الذي نشهد تجلياته "فعلى مستوى ضيق تبدو الشعبوية جيدة مدفوعة: بعدم رضا على النخب في أميركا وأوروبا مدفوعة بأزماتٍ عادت بالفائدة فقط عليها (النخب)"، لكنه يرى أن بوادر هذا الغضب يعبّر عن نفسه أيضاً في "ثورة على غولدمان ساكس والنخبة في بروكسل".

تتمحور المبرّرات التي يقدّمها اليمين المتطرف القومي، إضافة إلى الحركات والأحزاب الشعبوية، على الأقل في دول أوروبية، في الواقع حول خطاب "بيروقراطية وهيمنة نخب بروكسيل". يتعلق الأمر بمعظم الأزمات التي شهدتها أوروبا على مدى السنوات الماضية، بما فيها أزمات الاقتصاد و الهجرة والأمن. لكنه يرى أيضا أن "الأوضاع تزداد تعقيداً بسبب الانتهازية السياسية". وهنا تعود قصة "مجتمع ما بعد الحقائق"، ففيه تغيب أية قيمة للحقيقة، وتحضر مكانها، وبانتهازية أكثر من السابق، عملية تسويق خطاب وسرديات غير حقيقية، لجذب مزيد من المؤيدين للشعبوية.

قد لا يبدو بالنسبة لبعضهم بشأن فوكوياما ما يقدّمه أو يضيفه في هذا الجدل المنطلق بقوة في مدن الغرب ومراكزه الأكاديمية، هذا عدا عن الشارع والجامعات والأحزاب غير الممثلة برلمانيا. لكنه، بطريقة أو أخرى، تعبير عن حالةٍ مأزومة، ليست جديدة، يعيشها منظّرون على ضفتي الأطلسي.

وفي الواقع المعيش في الغرب، وعلى الرغم من التقدّم الهائل في مجال المعلومة، ووسائل التواصل، على عكس ما كان متاحاً في عصر انهيارات الكتلة الشرقية، ومتغيرات تسعينات شرق أوروبا، لا بد من الاعتراف بأن القيمة الحقيقية لتدفق المعلومات الواقعية لن تُحدث متغيراتٍ في المشهد العام إذا ما بقيت النخب متخاذلةً في دورها، بل إن ما يفاقم هذا الواقع هو غياب ما اصطلح تسميتها "مؤسسات/ شخوص قيادية حقيقية". فمسرح العمل واضحٌ في تأرجحه، وأحياناً بصورة فجة في انتهازيةٍ غير مسبوقة، تدمر الثقة بالمؤسسات تدميراً كاملا، لمجاراة هيمنة خطاب شعبوي، وفي ظن بعضهم أن ذلك يمكن أن يسحب من تحته البساط، بيد أن الحقيقة تفيد بأن هؤلاء يُجرون إلى مربع تلك الشعبوية.

مستقبل متشائم

ليس المرشح في الانتخابات الرئاسية الأميركية، دونالد ترامب، وحده من لعب على مفردات الخطاب الشعبوي. فأكاذيب وعمليات تلاعب كبيرة، تلقى وتجري حولنا. الضحية الأكبر في حملات استسهال خداع الناخبين هي الحقيقة بعينها.

وعلى الرغم من أننا، نحن المتلقين، نكاد نغرق في تدفق هائل للمعلومات بشأن قضايا عديدة، إلا أن المدقق لما يعيد السياسي الشعبوي طرحه سيصطدم باستساغة اتهام هيلاري كلينتون وأوباما بأنهما صنعا تنظيم داعش. صحيح أن كل الرؤساء يكذبون، من "اقرأوا شفاهي" و"هناك أسلحة دمار شامل في العراق" إلى "لم يكن لي أية علاقة جنسية بهذه المرأة"... إلخ.

لكن بعض الأكاذيب، حين تصل إلى صناديق الاقتراع، تصبح واحدةً من مصائب ما يجلبه الشعبويون على مجتمعاتهم. وقد يظن بعضنا أن القصة لا تعنينا كثيرا، بيد أنه، في الواقع، هو ما يعنينا نحن البشر، فمثلما يعتبر دونالد ترامب مشكلة مجتمعه الأميركي في عدم تشريع الصوت العنصري والتحذير من رفض المسلمين والمهاجرين غير البيض، فنحن، منذ سنوات، أمام كذبة شعبوية كبرى في أوروبا.

"مثل كرات ثلجٍ تلقى مقولات من دون سند علمي وواقعي حقيقي "وقف أسلمة أوروبا". فمن ذلك الشعار اخترعت أحزاب، وحركات شعبوية وقومية متطرّفة، برامجها المليئة بخطاب الكراهية"

ومثل كرات ثلجٍ تلقى مقولات من دون سند علمي وواقعي حقيقي "وقف أسلمة أوروبا". فمن ذلك الشعار اخترعت أحزاب، وحركات شعبوية وقومية متطرّفة، برامجها المليئة بخطاب الكراهية.

المذهل في الأمر إيجاد وعي زائف، عابر للحدود الوطنية، في دول أوروبية لا يوجد فيها من هؤلاء المسلمين المتهمين بـ"أسلمة المجتمع" عدة آلاف. غير ذلك، كيف يمكن للعقل أن يستسيغ ويهضم ويعيد إنتاج خطاب انطلق قبل ثلاث سنوات، بشكل أيديولوجي مقيت عن المهاجرين في ألمانيا؟

لم يكن في العام 2013 حزب البديل لأجل ألمانيا بمثل شعبية حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، ولا "الشعب" في الدنمارك أو "ديمقراطيي السويد" و"الحرية" في النمسا. لكننا بتنا أمام ظاهرة صعود صاروخي يثير الانتباه، والقلق في تجاوز كل يمين الوسط، وآخره هذه الهزيمة المذلة في برلين لحزب المسيحيين الديمقراطيين.

منهجية الحركات الشعبوية واضحة، ومثل "خريطة طريق" يجري تبنيها. وفي الواقع، فإنه من الأزمات يصنع الخوف، ويغذّى بشكل لافت، من خلال ضخ المزيد، والنفخ على مشكلات اجتماعية طبيعية في المجتمعات، ليُصار إلى تقديم "حلول سريعة"، تقوم على كثير من الديماغوجيا وقليل من الديمقراطية وفكرة المواطنة.

ليس هناك من أوهام أن "التشاؤم الثقافي" يؤدي إلى هذه المشهدية التي نعيشها في السنوات الماضية. فقد ذهب البروفسور أوليفر بينيت، من جامعة أوريك البريطانية، إلى وصف هذا التشاؤم الغربي في عالم ما بعد الحداثة وصفاً دقيقاً: "لكل فترة تشاؤمها الثقافي الخاص بها، بالنظر إلى الماضي والتفكير: في الماضي، كانت الأمور أفضل، الآن هي الأسوأ". جملة ماضوية يعرفها عالمنا العربي كثيرا، خصوصاً في موجات الثورات المضادة والترحم على دكتاتوريات "الزمن الجميل".

في معظم الفكر الشعبوي، فإن "الماضي الثابت"، بدون غرباء، وبوجود جدران تفصل عن الآخر "المهاجر"، كان كل شيء أفضل. إذا، هنا يُحمّل الآخر دائماً مسؤولية تعثر كل شيء في الحياة.

وما من شك أيضا، عند بينيت نفسه، أنه ليس هناك من ضمانة في الديمقراطية "كي يصوّت الناس، بناء على عملية تفكير عقلاني عميق، استناداً إلى الوقائع. لا يمكن القيام بالكثير سوى بالتنوير، ولا يمكن اعتماد قوانين تحظر الأكاذيب. ما زال الهراء يتخذ أشكالاً جديدة في وسائط الإعلام الحديثة، ولا شيء يفيد سوى الكفاح ضد هذا الهراء، في فترة ما بعد الوقائع".

مواطنة ناقصة

ربما تكتشف نخب أوروبا، من يمين ويسار الوسط، متأخرةً، خطأها الفادح في زمن اكتساح الغوغاء والشعبويين الحياة العامة والبرلمانات. ومع تلك النخب أيضاً صحافة ووسائل إعلام كنست الحقيقة تحت سجادة التمويه، فالفزع من مجتمعات "تعدّدية الثقافات" أعماها عن حقيقة أن طلب "الانصهار" أسهم في إحداث منعزلات وحواجز، بحسن نية أم بقومية حريصة متشدّدة.

ليس ثمة تهويل، في اللوحة التي يخاف منها بعض الأوروبيين الذين يرون الخطر على قيمهم متأتية من هؤلاء الشعبويين، ففي التاريخ الأوروبي دروس كثيرة لمخاطر الفرز والتعبئة، فمثلما يناقش بعض العرب، في أزمنةٍ متعدّدة، حالات دالة على انحطاط في مجتمعاتنا. بلا شك، هناك غربيون لا يروق لهم أن يصبحوا مواطنين في دولٍ تُقاد بفكر شبه فاشي مستقبلا.

خلل كبير عاشته أيضاً بعض أقليات مهاجرة في الغرب، وهي ليست بضعة آلاف، بل في دول عدة تشكل فيها نسبة مئوية معتبرة. حيث تقاعس بعضهم عن أخذ قضية الاندماج والتكيف وتعلم اللغة والتعرف على الثقافة وقيم تلك المجتمعات بالاعتبار. ذلك النكوص بحد ذاته اعتبره اليمين الشعبوي أحد أهم أسلحته المعتبرة، في صراعه على جذب الناخب، وبث مزيدٍ من الأكاذيب المضخمة، عن مواطنين يعيشون في الغرب كأنهم ليسوا فيه، فالانخراط في الحياة العامة، من الحي إلى البرلمان، لا ينتقص، في تلك المجتمعات، من الخلفية الثقافية لعربيٍّ أو مسلم، مثلما يضيف ولا ينتقص من قيمة مواطنته. فالامتناع، وأحيانا التكفير ونبذ المشاركة، تدفع ثمنه أجيالٌ مآلها الشكوى والتظلم ليس إلا.

مرة أخرى، يمكن القول إن كلام فوكوياما ليس حتمياً، لكن شيئا مما يقوله صحيح، بالنسبة لحالة الانحدار الغربي. ويمكن، لوقف بلدوزر اليمين الشعبوي، تشكيل تحالفاتٍ مجتمعيةٍ عريضةٍ ترسخ مبدأ المواطنة والتعدّدية الثقافية والحضارية. ويتطلب ذلك إعادة قراءة المشهد، على الجانب المتعلق بالمواطنة، ومفهومها المؤجل على ضفتي تلك المجتمعات، إذ لا العزل، بوهم إيجاد أحادية التجانس، ولا بالعزل الذاتي، يمكن الخروج من شرنقة الشكوى، والمظالم والتوهم بمواطنة آلية.

يقينا أيضا، سنكون أمام اندفاعةٍ شعبوية كبرى، ومعدية، في جنبات أوروبا، وهو ما لا يجب أن يكون صادماً إنطلاقا من مقدماتٍ نعايشها. وهي تختلف عن ثلاثينات القرن الماضي، بوسائل كثيرة، وناجعة أكثر يملكها الرافضون للانقياد وراءها.

اضف تعليق