هل مبدأ حرية التعبير، يبرر إمكانية تدمير المبادئ الإنسانية؟؟، وهل يجوز أن نبني بيد ونهدم بالأخرى، هل يمكن أن نسعى لنشر الجمال والحق والحرية، ونشر القيم الإنسانية اعتمادا على هوية الانتماء الإنساني، وفي الوقت نفسه نقوم بتدمير هذه القيم التي تحمي الحرية والحق والجمال، بحجة (حرية التعبير)، التي ينادي بها ويعمل وفق خطوطها الإعلام الغربي، كما نلاحظ ذلك في منهج نموذج سيّئ الصيت هو (مجلة شارلي ايبدو الفرنسية)؟.
إن السخرية من طفل لفظ أنفاسه غرقا وهو يحاول أن يفرّ عبر البحر من الموت مهاجرا تعد تجاوزا على حقوق الانسان، اذ يموت في البحر غرقا، فهذا الطفل هو نفسه ضحية (شارلي ايبدو)، التي أعادته الى الحياة (وهما أو خيالا)، لكي تسخر منه أمام مرأى العالم، فقد صورته يعود الى الحياة ويصبح شابا، لقوم بمطاردة النساء الالمانيات والتحرش بهنّ، في محاولة صارخة لضرب القيم والمبادئ الانسانية، بحجة حرية الاعلام التي تتبجح بها (شارلي ايبدو).
إذ لم يسلم الصغير آيلان، الطفل الكردي الذي قضى غرقًا في محاولة هجرة سرية لأسرته بين تركيا واليونان، من سخرية المجلة الفرنسية شارلي إيبدو للمرة الثانية خلال أشهر قليلة، إذ ظهر في رسم يتنبأ له بالتحرش الجنسي بالنساء الألمانيات، لو بقي على قيد الحياة، ووصل إلى مرحلة الشباب. وهذا الرسم الذي نشرته المجلة في عددها الصادر حديثًا، بعد إثارتها ضجة بسبب رسم يسخر من الذات الإلهية في عدد خصّص لتخليد الذكرى الأولى للهجوم عليها، يظهر فيه آيلان غريقًا في جانب من الصفحة، ثم هو يعود إلى الحياة، وبعدها رسم له وقد صار طفلا يافعًا على وجهه علامات الشغب، ثم شابا يركض وراء امرأة، وملامحه تقترب قليلًا من ملامح الخنزير.
وقد تضمن الرسم عنوانًا له هذا السؤال: "ماذا كان يصير الصغير آيلان إذا كبُر؟"، وكان الجواب أسفل الرسم:" مُلاحق للمؤخرات في ألمانيا". وقد وقع الرسم مدير المجلة، المعروف بريس، ويأتي للسخرية من حوادث التحرّش الجنسي التي وقعت في كولونيا الألمانية، وكان طالبو اللجوء أكثر المشتبه في قيامهم بها حسب وكالة (CNN). خالة آيلان، تيما كردي، وصفت لموقع سي بي إس الكندي، الرسم بالمقرف، مضيفة:" أتمنى أن يحترم الناس ألمنا.. لقد كانت خسارة كبرى لنا، نحاول النسيان والتقدم في الحياة، وليس من العدل جرحنا مرة أخرى". كما انتقدت الكثير من الآراء على الشبكات الاجتماعية المجلة، ووصفتها بالعنصرية.
شعارهم استفزاز الجميع
ثمة بون شاسع بين الجرأة البنّاءة، وبين الجرأة المدمِّرة، إذ لا يمكن أن نضع الجرأة (المتهورة) تبريرا لتدمير ما بناه الانسان عبر آلاف السنين وعدد كبير من الحضارات، ومجلدات لا تحصى من الفكر والفلسفة والقيم التي تمكنت من ترويض الوحشية والغرائزية في تركيبة الانسان، لتجعل منه مع مرور الزمن قائدا حكيما لكائنات الارض كافة.
إن مجلة "شارلي إيبدو" التي تعد أشهر مجلة كاريكاتير ساخر في فرنسا، وعُرفت طيلة العقود الماضية بجرأتها، لم يسلم منها أحد، حيث سخر رساموها من كل الديانات ومن كل التيارات السياسية، وكان القائمون عليها يدافعون عن مستوى السخرية الذي يكون (شديد الانحطاط أخلاقيا) في العديد من الأحيان، مع التأكيد على حقهم في حرية التعبير وعدم الرضوخ لأي قيود مهما كانت، بغض النظر عن كونها ذات نزعة مضادة للقيم.
وتفتخر مجلة "شارلي إيبدو" باستفزاز الجميع على قدم المساواة، ومن دون أي تمييز بينهم ومن دون خوف أو محاباة، ويضع رسامو الكاريكاتير والكُتّاب في الصحيفة نصب أعينهم الديانات الرئيسية في العالم والسياسيين والمشاهير، رافعين لواء حرية التعبير وساخرين مما يسمى باللياقة السياسية، بحسب الوكالة نفسها.
إن الاعلام الغربي قد لا ينساق كله في الخط المتطرف الذي تسير فيه شارلي ايبدو، ولكن على نحو العموم، نحن نلاحظ تفاقم حالة التبرير الذي تعتمدها قنوات كثيرة لهذا الاعلام، باعتبار حرية الاعلام خط أحمر، وهو امر يمكن أن يتفق عليه الجميع، ليس العالم الغربي فقط، ولكن ينبغي أن يتم ذلك ضمن آلية الحفاظ على المبادئ الانسانية وليس تهديمها.
فكثيراً ما اضطر ممثلو صحيفة "شارلي إيبدو" إلى المثول أمام القضاء والمساءلة في المحاكم بسبب تهم تتعلق بقضايا التشهير، كما أنها أثارت أيضاً ناراً حقيقية بسبب نشرها الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص) في عدة مناسبات، وكانت الصحيفة مثار جدل في فبراير 2006، حين أعادت الصحيفة نشر اثنين من الرسوم الدنماركية المسيئة، وهي رسوم كانت قد أدت بالفعل إلى أعمال شغب قاتلة قبل ذلك.
إن هذا الإصرار على الاساءة لمعتقدات اكثر من مليار انسان، لا يمكن أن تبررها حرية الإعلام، لذا فإن السخرية والتهجم والتجاوز من دون مبرر لا يمكن أن يدخل ضمن الجرأة والابداع والتجديد وما شابه، إنما النتائج ستكون عكسية تماما، لأن الهدف الأول والأخير من الإعلام الناجح هو بناء الانسان وليس تدميره.
سخرية جبانة هدفها حب الظهور
إن الاعلام الغربي في العموم قد لا يقصد تدمير القيم الانسانية، وربما لديهم ما يبرر الجرأة وحرية التعبير، إعتمادا على طبيعة المجتمع، ومستوى وعيه وذكائه، فربما يعتمدون على وعي الانسان وممارسته لحريته بوعي ايضا، ولكن هذا المنهج لا يمكن أن ينجح مع الجميع، ثم انه لا يصح أن يستخدم للإساءة الى الآخرين بحجة أهمية وحتمية (حرية التعبير)، لذا وصف كثيرون أن هذه السخرية جبانة هدفها الظهور والشهرة.
ففي إطار ردود الأفعال التي تلت حادثة الهجوم على شارلي ايبدو، كتب احد المفكرين الإسلاميين، تعليقًا باللغتين الإنجليزية والفرنسية استنكر من خلاله الحادثة وقال عبره إن الهجوم لم يكن انتقامًا للرسول وإنما انتقاما من الإسلام ومن قيمه وأخلاقه، مع العلم أن هذا المفكر كان من أشد منتقدي المجلة ووصف السخرية التي تقدمها خلال مناظرة بينه وبين مدير المجلة بأنها سخرية جبانة وتبحث عن الظهور عبر استفزاز مشاعر المسلمين ثم الاختباء خلف ذريعة حرية التعبير.
ويتضح هذا المنهج الاعلامي المستفِز والساخر، في العديد من الاحداث التي تعاملت معها هذه الصحيفة، فقد أثار كاريكاتير جديد نشرته مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية يسخر من مأساة الطائرة الروسية المنكوبة في سيناء استياء واسعا في روسيا، إذ وصفه الكرملين بأمر غير مقبول. لذلك قال دميتري بيسكوف الناطق الصحفي باسم الرئيس الروسي في تصريح له مؤخرا: إننا نسميه في روسيا تدنيسا للمقدسات، ولا علاقة له بالديمقراطية أو حرية التعبير.
وأردف الناطق أن "شارلي إيبدو" مجلة قليلة الانتشار ومثيرة للجدل لا يقبلها كثيرون. وأكد بيسكوف أنه لا مكان لمثل هذه الوسائل الإعلامية في المجتمع الروسي متعدد القوميات والديانات، ودان برلمانيون روس بشدة الكاريكاتير الجديد للمجلة باعتبار أنه يسخر من مأساة الطائرة الروسية المنكوبة في سيناء التي راح ضحيتها 217 راكبا وطاقم الطائرة المكون من 7 أفراد، في حين وصف كوساتشوف رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي (الشيوخ) نشر الكاريكاتير بأنه أمر مناف للأخلاق، باعتبار أنه يستهدف الدعاية الذاتية والحصول على مكاسب مالية على حساب مآسي الآخرين.
هكذا يمكن أن يرفض سياسيون ومفكرون من الشرق والغرب منهج تدمير القيم التي تهدف إليه مثل هذه الوسائل الاعلامية (المريضة)، لذا فإن مبدأ (حرية التعبير)، لا علاقة له بمنهج هذه المجلة التي تتحامل على الآخرين بحجج واهية، وبشماعة الحرية، لأن الاعلام السليم لا يمكن أن يسخر من المشاعر الانسانية النبيلة، ولا يمكن أن يجعل من مآسي الناس والكوارث التي يتعرض لها الانسان، مادة للكسب الاعلامي وتحقيق الشهرة وجمع المال، فالمبادئ الانسانية، ينبغي أن تتقدم على الاهداف المادية البحتة.
اضف تعليق