q
تَتّجهُ الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّة إلى ربطِ مساعدةِ لبنان بتغييرِ المنظومةِ السياسيّةِ، وإلى الـمُواءَمةِ بين تغييرِ الحكمِ اللبنانيّ وتغييرِ النظامِ السوري. يَندرجُ هذا المنحى الجديد في إطارِ سياسةِ واشنطن الراميةِ إلى ضربِ قواعدِ النفوذِ الإيرانيِّ في مختلَفِ دولِ المشرِق، ولبنان ضِمنًا. لغايةِ تأليفِ حكومةِ أيها اللبنانيّون...

تَتّجهُ الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّة إلى ربطِ مساعدةِ لبنان بتغييرِ المنظومةِ السياسيّةِ، وإلى الـمُواءَمةِ بين تغييرِ الحكمِ اللبنانيّ وتغييرِ النظامِ السوري. يَندرجُ هذا المنحى الجديد في إطارِ سياسةِ واشنطن الراميةِ إلى ضربِ قواعدِ النفوذِ الإيرانيِّ في مختلَفِ دولِ المشرِق، ولبنان ضِمنًا.

لغايةِ تأليفِ حكومةِ "أيها اللبنانيّون" (كلَّ يومٍ رسالة)، كانت واشنطن تَرهَنُ المساعداتِ بالإصلاحِ فقط، لكنّها اكتشفَت، بالدليلِ القاطِع، أن لا إصلاحَ ممكنًا في لبنان مع هذه المنظومة، فقرّرت الذَهابَ إلى أصلِ البَلاء. وإذا كانت الدولُ الغربيّةُ تُقنِّنُ انتقادَ الحكومةِ اللبنانيّة، فليس دليلَ رِضى عنها، بل لأنّها لا تَعتبرُها مصدرَ القرار، فتَرأفُ بنقْدِها.

فيما غالِبيّةُ اللبنانيّين تريد الإصلاحَ ورحيلَ هذه المنظومةِ بَدءًا بالحكومةِ، جميعُهم يسألون: أنّى لأميركا أن تُطيحَ هذه المنظومةَ عن بُعد؟ بقمرٍ اصطناعيٍّ؟ بطائرةٍ من دون ِطيّار؟ بسلاحِ التويتر والفايسبوك؟ بالعقوباتِ و"قانونِ قيصر"؟ ما تَطرحُه أميركا يَحمِل أخطارَ حربٍ، فأين جيوشُها؟ اللهمَّ إلَّا إذا كانت لا تُبالي بنشوبِ حربٍ أهليّةٍ جيوشُها المكوّناتُ اللبنانيّة. في الحالتين، طرحُها هو أقصرُ طريقٍ إلى الانهيارِ التامّ. يكفي أميركا وَضعُ خططٍ كبيرةٍ بوسائلَ تنفيذيّةٍ صغيرة. وتَكفيها معالجةُ قضايا طارئةٍ بأدويةٍ مفعولُها متأخرٌ. اللبنانيّون لا يَحتَمِلون أن يَصعَدوا جبالَ "إڤِـرِسْت" بدرّاجةٍ هوائيّة: يموتون ولا يصِلون.

تعوِّلُ واشنطن على "الحروبِ الاقتصاديّةِ" التي بدأتْها في الثمانيناتِ على إيران، وفي التسعيناتِ على العراق، وفي الألفيّةِ الثانيةِ على سوريا، وأخيرًا على حزبِ الله ـــ واستطرادًا على الحكم اللبناني ـــ فارتدّت على كلِّ لبنان. توصّلت واشنطن إلى قناعة أَنَّ النظامَ اللبنانيَّ تغيّر خلافًا لقواعدِ التغييرِ التقدّمي، وصار شبيهًا بأنظمةِ محيطِه خطًّا وسلوكًا، وبالتالي لا بد من أن يتغيّرَ معها.

مِن هنا انزلقْنا من جديدٍ في وِحدةِ المسارين السوريِّ واللبنانيِّ من دونِ عودةِ الجيشِ السوري. ظاهريًّا، واشنطن هي التي رَبطت المسارين، لكن فعليًّا هو الحكمُ اللبنانيُّ الذي انحاز إلى المحورِ الإيرانيِّ/السوريّ وسَخّرَ ديبلوماسيّتَه للترويجِ لهذا المحورِ ولــ"تبريرِ" سلاحِ حزب الله.

وروسيا أيضًا هي التي تُحاول أن توسّعَ تأثيرَها السياسيَّ إلى لبنان تحت ذريعتين: التنسيقُ بين الأقليّاتِ في سوريا ولبنان، واحتواءُ حزبِ الله على غرارِ تقليصِها الدورِ الإيراني في سوريا. ومن هنا، بوضوحٍ أكثر، نَفهم تسويقَ السيد حسن نصرالله للصين لا لروسيا.

انتعَشت وِحدةُ المسارَين وتَجلّت في عناصرَ أبرزُها: الخِياراتُ الإستراتيجيّةُ واعتمادُ خَطِّ الممانعة، الهيمنةُ الإيرانيّةُ على البلدين، وِحدةُ الساحةِ العسكريّة، العُزلةُ العربيّةُ والدوليّة، العقوباتُ الأميركيّةُ و"قانونُ قيصر"، أزمةُ النازحين الضاغطةُ على الدولتين، انهيارُ الليرتين وتَفشّي الفَقرِ والجوع، تبادُلُ الفسادِ والهدرِ رسميًّا والتماهي بالقمعِ والترهيب جَهارًا، عدوى الخِلافاتِ في بيوتِ أهل الحُكمَين، تماثلُ مستوى الطبقتَين السياسيّتين، وحِدةُ الأجواءِ اللبنانيّةِ/السوريّةِ بالنسبة لإسرائيل، تَنازعُ الـمِلكيّةِ على مزارع شبعا، وفي التمايل بين مشروعَي الأقليّاتِ والأكثريّة.

ليست المصالحةُ الدُرزيّةُ المتزامنةُ مع انتفاضةِ الدروز في السويداء أحدثَ مظاهر الربطِ بين الحالتين اللبنانيّةِ والسوريّة، بل "قانونُ قيصر". فالولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّة توجّه هذا القانونَ إلى سوريا ولبنان كأنّه "جيشُ قيصر" لا قانونُه، وتَثِق بقدرتِه على تغييرِ حالِ النظامين مثلما وصولُ الجيشِ الروسي إلى سوريا سنة 2015 غيّرَ مسارَ الأحداثِ فيها وأنقذَ النظامَ مرحليًّا. أميركا تعتبر العقوباتِ جيشَها الجديد في الشرق الأوسط.

بعد تراجعِ العمليّاتِ العسكريّةِ في سوريا سنة 2016، أُعطي بشّارُ الأسد فرصةَ الإصلاحِ الذاتي من خلال التفاوضِ مع المعارضةِ فرَفضَ ظانًّا أنّه انتصَرَ والمنتَصِرُ يَفرِضُ ولا يُفاوِض، لكنّه تجاهل أنَّ انتصارَه ليس ذاتيًّا، بل ثمرةُ دعمِ روسيا وإيران وحزبِ الله، وإلا لكانَ انهارَ النظامُ كليًّا. وفي لبنان أُعطيَ الرئيسُ ميشال عون فرصةَ التغيير... والإصلاحِ أيضًا بعد انتخابِه إثرَ التسويةِ الرئاسيّة، لكنه اعتبَر، كالأسد، أنَّ مجيئَه انتصارٌ لا تسوية، وأضاعَ الفرصة. فكانت العقوباتُ والانتفاضةُ والانهيارُ الاقتصاديُّ والماليُّ والتوتّرُ الأمنيُّ.

الوصولُ إلى الحائطِ المسدودِ هو وراءَ فكرةِ دعوةِ المنظومةِ السياسيّة "قَشِّهْ لَـفِّهْ" إلى قصرِ بعبدا يوم الخميس المقبل (مبدئيًّا). الحكمُ يريد تغطيةً ليستمرَّ ويمنعَ انهيارَه. لكنَّ غالِبيّةَ المدعوين هم جُزءٌ من المشكلةِ لا من الحل، فلا يستطيعون أنْ يُغطّوا وهم يحتاجون تغطيةً، ولا أن يَتضامنوا وهم منقسِمون، ولا أن يَـحُولوا دونَ التغيير الآتي وهم طليعةُ المستَهدَفين. استحالةُ التغطيةِ والتضامن ناتجةٌ كذلك عن استحالةِ الاتفاق على الثوابتِ. فأيُّ بيانٍ سيصدُر عن المجتمعين لن يَتضمنَ النقاطَ الخلافيّة التي هي أساسُ الأزمةِ الوطنيّة.

صار التغييرُ في لبنان حتميًّا. لم يَعد يحتاجُ إلى الطوائفِ أنْ تُطالب بـــ"حقوقٍ"، ولا إلى الشعبِ أنْ يثور، ولا حتّى إلى عقوباتٍ أميركيّة. ارتفاعُ نسبةِ الانهيارِ أكسَبَ النظامَ اللبنانيَّ ديناميّةَ تغييرٍ، بل ديناميّةَ سقوطٍ وانفجار، مستقِلّةً عن ديناميّةِ المكوّناتِ والثوّار والضغطِ الدوليّ. صار التغييرُ فعلًا آليًّا وقوّةَ دفاعٍ ذاتيّ. حين تبلغُ حرارةُ سائلٍ درجةً أعلى من تحمّلِ مادةِ الخَــزّان، يَنفجر الخَـــزّان من دون تدخّل قوةٍ ثالثة. الانفجارُ في ذاتِه مرحلةٌ من مراحلِ التغيير. البلادُ تعيش الآن خارجَ انتظامِ مؤسّسات النظام وآليّاتِه. السائلُ خارجَ الخَـــزّان. الدولةُ خارجَ النظام والشعبُ خارجَ الدولة. هناك من يَدفعُ إلى حصول الانفجارِ الشامل. هناك من يحاولُ نقلَ البلادِ من أزمةٍ اقتصاديّةٍ/اجتماعيّةٍ أفرَزتْها أزمةٌ سياسيّةٌ/وطنيّة، إلى ما قبلَ التكوين بقصْدِ إنشاءِ بلدٍ جديد.

اللافتُ أنَّ التغييرَ في سوريا ولبنان سيشمُل أركانَ النظامين وبُنْيَتَيْه أيضًا. تغييرُ بُنيةِ النظام في سوريا قد يَستثني هويّتَه، أي اللونَ العلويَّ السائدَ منذ سنةِ 1968 لأنه يَنسجمُ مع هندسةِ الشرق الأوسطِ الجديد القائمةِ على إحداثِ توازنٍ ما بين الأكثريّاتِ والأقليّات. وفي لبنان، سيأخذ التغييرُ أيضًا هذا المنحى بإجراءِ تعديلاتٍ دستوريّةٍ تَتجنّب المسَّ باللونِ المسيحيِّ في رئاسةِ الجمهوريّة إلا إذا كانت هناك نيةٌ بتقسيمِ لبنان أو فَرْزِه كانتونات.

التغييرُ في سوريا بدأ من خلالِ مشروعِ إعادةِ بناءِ الجيشِ السوري التي تُشرِفُ عليها روسيا مباشرةً، ما سَبّبَ اختلافًا بين أهلِ النظامِ وروسيا. أهلُ النظام، لاسيّما ماهر حافظ الأسد، يريدون إبقاءَ الجيشِ السوريِّ جيشَ نظام، بينما تفضِّل روسيا أن يُصبح جيشَ دولةٍ لتسهيل الانتقالِ الدستوري. أما في لبنانُ فسينطلقُ التغييرُ برعايةٍ غربية "قيصريّة" من مؤسّساتِ النظامِ المدنيّةِ ومع دورٍ خاصِّ للجيشِ الذي لن يَخضعَ لإعادةِ بناءٍ، بل لإعادةِ انتشارٍ مناطقي.

الأمنُ أوّلًا، في هذه المرحلة، ويُستحسَنُ ربطُ الأحزمة.

* سجعان قزي، وزير سابق، جريدة النهار

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق