لم تكن الفدراليّةُ في البَدء ولن تكونَ في النهاية. في البَدءِ والوسطِ والنهايةِ كان لبنان وكانت الحرّية. ليس هاجسُنا أن نكونَ دولةً مركزيّةً أو لامركزيّةً، فدراليّةً أو كونفدراليّة. هاجسُنا أن يكونَ لبنان دولةً رائدةً وأرضَ شراكةٍ حضاريّةٍ. طروحاتُ الفدراليّةِ يتيمةٌ، والهجومُ عليها عبثيٌّ، ورفضُها مسرحيٌّ...
لم تكن الفدراليّةُ في البَدء ولن تكونَ في النهاية. في البَدءِ والوسطِ والنهايةِ كان لبنان وكانت الحرّية. ليس هاجسُنا أن نكونَ دولةً مركزيّةً أو لامركزيّةً، فدراليّةً أو كونفدراليّة. هاجسُنا أن يكونَ لبنان دولةً رائدةً وأرضَ شراكةٍ حضاريّةٍ. طروحاتُ الفدراليّةِ يتيمةٌ، والهجومُ عليها عبثيٌّ، ورفضُها مسرحيٌّ، وأمامَ تنفيذِها إشكاليٌّات أين منها إشكاليّاتُ الوِحدةِ المركزيّة. وَقْفُ الطرحِ الفدراليِّ يَبدأ بعودةِ مُنتقِديها إلى الدولةِ والوطن. الخروجُ عن الدولةِ هو حالاتُ تمرّدٍ وعِصيانٍ وانفصالٍ وتقسيمٍ تُفوق أيَّ خيارٍ آخَر. ومرتَكِبو هذه الحالاتِ ليسوا في مَقامِ إعطاءِ أمثولاتِ في وِحدة لبنان. ما يجري على ضِفافِ "الطائف" وفي كيانِ الدولةِ منذ سنواتٍ غيّرَ لبنانَ من دون تعديلٍ دستوري.
الغريبُ أنَّ مَن أسقطوا الدولةَ المركزيّةَ والدستورَ والميثاقَ وخَرقوا النظامَ يطالبون بالتغييرِ الشامل، ومن يَحترمون النظامَ كَفَروا به لكثَرةِ ما استُبيح. والطريفُ أنّ مَن يرفضون الفدراليّةَ الدستوريّةَ الحضاريّةَ على الطريقةِ السويسريّةِ والألمانيّةِ والنَمساويّة، يُطبّقونَها على الطريقةِ اليمنيّة. لبنانُ الحاليُّ نَموذجُ الفدراليّةِ المتوحِّشة: مسموحةٌ فدراليّةُ الشعوبِ على أرضِ لبنان بين اللبنانيّين والفِلسطينيّين والسوريّين. مسموحةٌ فدراليّةُ الرئاسات الثلاث. مسموحةٌ فدراليّةُ الجيوشِ والمخابراتِ والأجهزةِ الأمنيّة. مسموحةٌ فدراليّةُ الولاءاتِ والتبعيّات. مسموحةٌ فدراليّةُ شبكاتِ الاتصالاتِ السلكيّةِ واللاسلكيّة. مسموحةٌ فدراليّةُ الفسادِ والهدر. مسموحةٌ فدراليّةُ المطارِ والمرفأِ والتهريب. مسموحةٌ فدراليّةُ الأملاكِ البحريّةِ والصناديق المناطقيّة. مسموحةٌ فدراليّةُ رُخصِ المصارفِ الخمسةِ الجديدة. مسموحةٌ فدراليّةُ التعييناتِ والإقطاعيّات والعائلات.
لحظةَ نُلغي هذه الحالاتِ الشاذّةَ ونعودُ إلى الدولةِ، بدستورِها وشرعيّتِها، تَسقط فكرةُ الفدراليّةِ بغمزةِ صَبيَّةٍ على طريقِ العين. لا تعود أيُّ جماعةٍ تُفكّر فيها إِذ لا أحدَ مغرمٌ بها بالمطلَق. خلافَ ذلك لا يَستطيعُ أيُّ طرفٍ مسلّحٍ أو منزوعِ السلاح أنْ يُوقفَ مسارَها. إذا كانت الفدراليّةُ نظامَ الـمِنطقةِ الجديدَ فلا طائلَ من معارضتِه، وإن لم تكن كذلك فلا فائدةَ من المناداةِ به. تأثيرُ القرارِ الدوليّ علينا، بفعلِ انقسامِنا وبغيابِ قادةٍ تاريخيّين، أكبرُ من تأثيرِنا عليه. وبالتالي لا داعي لمعاركَ هزليّة ـــ وقد تَتحوّل دراميّة ـــ بسببِ الفدراليّة.
لا تَحوز الفدراليّةُ على الأكثريّةِ في أيِّ طائفة، لكنها تُراود مخيّلةَ مجموعاتٍ شعبيّةٍ ونُخبويّةٍ في جميع الطوائفِ بنسبٍ مختلِفة. تكتيكُ الطوائف هو التالي: إنْ كان لا بدَّ من فدراليّةٍ، فدَعوها تأتي على يدِ غيرِنا. الدروزُ ينتظرون المسيحيّين، والمسيحيّون يَنتظرون الشيعةَ، والشيعةُ يَنتظرون المسيحيّين والدروز، والسُنّةُ ينتظرون الجميع من دون حماسة. والجميعُ يَغسِلُون أيديهم منها وينتظرُون خريطةَ الشرقِ الأوسط الجديد. مسلسلُ خبثٍ. من يَغطِسُ في البحرِ أوّلًا. إلى هذا الخبثِ يُعاني اللبنانيّون حَيْرةَ الخِيار إذِ إنَّ مفهومَ لبنانَ الواحد مختلِفٌ بين مُكوٍّن وآخَر.
حين كان في لبنان دولةٌ ودستورٌ وميثاقٌ لم تكن مفرداتُ الفدراليّةِ والكونفدراليّة، ولا حتّى اللامركزيّة، من قاموسِنا اللغويِّ والدستوريّ. في ما مضى كان الصراعُ بين صانعي وِحدةِ لبنان المستقِلّ وبين الداعين إلى وِحدةٍ عربيّة. كان المؤمنون بوِحدةِ لبنان المستقلّ يُـتَّهمون بالتقسيمِ والانعزاليّةِ لأنّهم يُعطِّلون ذوبانَ لبنان في وِحدةٍ مع سوريا أو مع مصر أو في إطارٍ أوسَع. كان الوحدويّون تقسيميّين والعروبيّون وحدويّين. كان الصراعُ بين لبنان والعروبة، فسقطت العروبةُ على يدِ غيرِنا وبَقي لبنان. لكن أيُّ لبنان؟
هل سَمعتم لبنانيًّا، مسيحيًّا على الأَخص، يَلفُظ كلمةَ "اللامركزيّةِ"، قبل حربِ السنتَين؟ وقبلَ الاحتلالِ الفِلسطينيّ؟ وقبلَ الاحتلالِ السوريّ؟ وقبلَ انحيازِ نِصفِ لبنان إلى دولٍ خارجيّة؟ وقبلَ السلاحِ غيرِ الشرعيِّ وهيمنتِه على القرارِ الوطني؟ وقبلَ تشويهِ نَمطِ الحياةِ اللبنانيّة؟ وقبلَ الجهادِ والتكفير؟ وقبلَ تغييرِ هُويّةِ لبنان؟
هل سَمعتُم لبنانيًّا، مسيحيًّا على الأَخص، يقول قبلَ تلك الأحداث: نريدُ مَطارَنا ومَرفَأنا ومَصرِفَنا المركزيَّ وجيشَنا وسلاحَنا ومالـيّتَـنا؟ بَرزت هذه الأفكارُ حين سُدَّت طرقاتُ المطارِ والمرفأ وَمصرفِ لبنان وسادت العتمةُ وتخلّى الجيشُ عن الدفاعِ عن المناطقِ خوفَ أن يَنقسِمَ وتلكّأت الشرعيّةُ عن القيامِ بدورها وشَرَدَت الولاءات. اليومَ أُزيلت خطوطُ التماسِ بين مناطقِ الوطن، لكنّها أقيمَت بين مفاهيمِ الوطنيّة. لا بل إنَّ تطوّرَ الأحداثِ وراديكاليّةَ العقائدِ الجديدةِ لا تبشِّرُ بالخير.
قبل تلك التجاربِ المريرة، اخترنا جميعًا النظامَ المركزيَّ القويَّ الباسطَ سلطتَه على كاملِ المناطقِ اللبنانيّة. فَضّلناه على سائرِ الأنظمةِ الدستوريّة وتحدّينا الشرقَ به. ناضلنا في سبيلِه وسَقط لنا جميعًا شهداءُ لإنقاذِه. لكنَّ التناقضاتِ التي صارت فاحشةً في المجتمعِ اللبنانيِّ ضربت مقوِّماتِ السلطةِ المركزيّة. ما قيمةُ نظامٍ مركزيٍّ لا يَمتلك قرارًا مركزيًّا؟ ولا يستطيع نشرَ جنديٍّ واحدِ على الحدود؟ ولا تنفيذَ خُطّةٍ أمنيّةٍ في المحافظات؟ منذ خمسين سنةً تحديدًا ونحن نعيشُ على القراراتِ الدوليّةِ والوصاياتِ والاحتلالاتِ والميليشيات. منذ خمسين سنةً ونحن مُنقسمون.
لذلك، بقدْرِ ما تعديلُ النظامِ ضروريٌّ، تغييرُ سلوكِنا أهم. دون ذلك أيُّ تعديلٍ يكون عملًا عبثيًّا وهدرًا دستوريًّا. ليس لبنانُ لُعبةً نَفكُّها كلَّ يومٍ ونُعيدُ تركيبَها. تأسّسَ لبنانُ بالإرادةِ لا بالسَهو. لنَنْزعْ عن الصيغةِ المشاريعَ الطائفيّةَ الخاصّة، وعن الميثاقِ الهيمنةَ الفائِضة، وعن النظامِ الأنظمةَ الموازية، وعن الدستورِ الولاءاتِ المتعدِّدةَ، وعن المؤسّساتِ المحاصصاتِ القاتلة. ومن ثم فَلْنَرَ ما يَنقُص النصوصَ ولْنُعدِّلْها لتحديثِ النظامِ لا لقَضْمِه. النظامُ اللبناني، كأيِّ نظامٍ في العالم، يَخضع دوريًّا للتطوير ليتكيّفَ مع خِياراتِ الشعب، ويمتِّنَ التكاملَ المؤسساتيَّ، ويعزّزَ التشريعاتِ المدنيّة في إطارِ وِحدةِ البلاد.
إنَّ حدودَ التغييرِ تتقرّرُ في ضوءِ المعطياتِ التالية: مصيرُ حزبِ الله مشروعًا وسلاحًا، مدى احتواءِ التيّاراتِ السلفيّةِ والتكفيريّةِ الغريبةِ عن الإسلامِ اللبناني، الاتفاقُ على السياستين الخارجيّةِ والدفاعيّة، إقرارُ حيادِ لبنان، تطويرُ الشراكةِ الوطنيّةِ على أُسُسِ دُستورٍ مدنّي، ومصير اللاجئين الفلسطينيّين والنازحين السوريين.
لسنا في وضعٍ يَسمح لنا القَبولَ اليومَ، بتسوياتٍ تَنفجِر في وجهِنا غدًا. نكادُ نُرمى في البحرِ ولا نزال نَصبِر. هاجِسُنا ضمانُ مستقبلِ أولادِنا وممتلكاتِنا وتاريخِنا وحضارتِنا وخصوصيّتِنا. اليومَ أفضلُ من الغد. الوِحدةُ أفضلُ من الاتّحاد، والاتّحادُ أفضلُ من التقسيم، والتنفيذُ بالحُسنى أفضلُ من التنفيذِ بالعنف، فلا أحدٌ يَستضعِفُ أحدًا ولا أحدٌ يَستغبي أحدًا. وهنا قيمةُ الشعوبِ: أنْ تَتَّحدَ في مراحلِ تقريرِ المصير.
اضف تعليق