لا تعمل أدمغتنا بلا كلل كالآلات، بل تتفاوت ردود فعلنا للأحداث التي تطرأ من وقت لآخر على مدار اليوم. فمن المعروف بداهة أن قدرتنا على التركيز تنخفض إلى أقصى حد بعد تناول الطعام. فكيف نرصد علامات تغيّر النشاط العقلي على مدار يوم العمل؟ وإذا عرفت...
ويليام بارك-صحفي

يمر النشاط العقلي بأطوار مختلفة على مدار اليوم، فقد ينشط ذهننا أحيانا ويعتريه الفتور في أحيان أخرى. فهل نرتب المهام الشاقة وفقا لهذه التغيرات؟

لا تعمل أدمغتنا بلا كلل كالآلات، بل تتفاوت ردود فعلنا للأحداث التي تطرأ من وقت لآخر على مدار اليوم. فمن المعروف بداهة أن قدرتنا على التركيز تنخفض إلى أقصى حد بعد تناول الطعام. لكن استجابات الجهاز العصبي للمنبهات تتأرجح على مدار اليوم وليس بعد الانتهاء من الوجبات الدسمة فحسب.

فكيف نرصد علامات تغيّر النشاط العقلي على مدار يوم العمل؟ وإذا عرفت الأوقات التي يبلغ فيها نشاطك العقلي ذروته، هل ستعيد ترتيب مهامك اليومية وفقا لزيادة النشاط الذهني أو فتوره؟ وهل بإمكانك استغلال قدراتك العقلية لتحسين أدائك في العمل؟

يفضل تأدية المهام الشاقة في الصباح

إن لم تكن معتادا على الاستيقاظ مبكرا، فإن بعض الأدلة تشير إلى أنه من الأفضل ألا ترغم نفسك على تغيير عاداتك. ومهما نصحك كبار رجال الأعمال بالاستيقاظ مبكرا وأشاد المشاهير بفوائد أنظمتهم اليومية القاسية لممارسة الرياضة في أطراف النهار، لا تحاول تغيير نمط النوم والاستيقاظ الذي اعتدت عليه، لأن تغييره لن يساهم بالضرورة في تحسين أدائك العقلي ما لم يكن دماغك مهيأ بصورة فطرية للاستيقاظ مبكرا.

إلا أن ذلك لا ينتقص من أهمية الساعات الأولى من الصباح في أدائنا اليومي، إذ خلصت دراسة أجريت على عاملين يابانيين إلى أن استجابة الجسم لمسببات الضغط النفسي تكون أفضل في النهار منها في المساء. وتعرض العاملون في هذه الدراسة لضغوط نفسية إما بعد ساعتين أو 10 ساعات من الاستيقاظ، لقياس استجابة الدماغ للمهام المشحونة بالضغوط النفسية في بداية يوم العمل أو في نهايته قبل مغادرة الشركة.

وخلصت الدراسة إلى أن مستويات هرمون الكورتيزول في الدم - الذي يفرزه الجسم استجابة للضغوط النفسية - كانت مرتفعة للغاية لدى الموظفين بعد الاختبار الذي أجري في بداية يوم العمل، لكنها لم ترتفع بعد الاختبار الذي أجري في نهايته.

ويقول يوجيرو ياماناكا، الأستاذ بجامعة هوكايدو باليابان، إن "هرمون الكورتيزول يلعب دورا كبيرا في حماية أجسامنا، فهو الهرمون الذي يساعد الجسم على مواجهة المخاطر والتهديدات التي تعرّض حيانتا للخطر، من خلال استجابة الفرار أو المواجهة".

وينظم الكورتيزول ضغط الدم ويزيد مستويات السكر في الدم عند مواجهة المخاطر أو مسببات الضغوط النفسية، لينبهك ويمدك بالطاقة اللازمة للاستجابة لها بطريقة مناسبة، بدلا من أن تنتابك نوبات الذعر.

ويساهم الهرمون أيضا في استعادة المستويات الطبيعية لضغط الدم والسكر بعد انتهاء الحدث الذي يسبب التوتر والضغط النفسي، وهذا يساعد في تهدئتك بعد فترة النهار المشحونة بالضغوط. لكن لو ارتفعت مستويات الكورتيزول في الدم في المساء، فقد تؤثر على دماغك.

ويحذر ياماناكا من أن تكرار التعرض للضغوط النفسية في آخر النهار قد يسبب مشكلات صحية طويلة الأمد، مثل السمنة ومرض السكري من النوع الثاني، والاكتئاب. ويقول "من الأفضل أن تؤدي المهام المرهِقة نفسيا في النهار، لكي تتفادى التعرض للضغط النفسي في المساء".

ابحث عن قمة نشاطك الذهني في آخر النهار

ربما ترتفع مستويات الكورتيزول في الدم في النهار لتساعدنا على التعامل مع المشكلات التي تواجهنا أثناء اليوم إذا استيقظنا في وقت مبكر. لكن كريستينا إسكريبانو بارينو، عالمة النفس بجامعة كومبلوتينس بمدريد، تقول إن "بعض الناس ليسوا أكثر نشاطا وحيوية في الصباح، لكن حياتنا العملية موجهة نحو الصباح، وهذا بالطبع في مصلحة الأشخاص الذين يفضلون الاستيقاظ مبكرا".

وثمة عوامل عديدة تؤثر في عادات نومك، سواء كنت من محبي السهر أو الاستيقاظ مبكرا، مثل السن والجنس وغيرها من العوامل الاجتماعية والبيئية. ويكون الجسم مستعدا لمواجهة الضغوط النفسية بعد الاستيقاظ بفترة وجيزة، ولهذا يفضل أن تستغل هذه الميزة بقدر المستطاع.

في حين أن الجسم قد يحتاج لفترة أطول ليستجمع نشاطه لتنفيذ بعض المهام الأخرى، مثل حل المسائل الرياضية، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بدرجة حرارة الجسم. فكلما ارتفعت درجة حرارة الجسم الداخلية، تحسن الأداء.

وفي كل الأحوال، ترتفع درجة حرارة أجسامنا في بداية المساء، ولهذا يفضل أن تؤجل المهام الذهنية حتى هذا الوقت. وتتحكم الساعة البيولوجية الداخلية في هذا الإيقاع اليومي لارتفاع وانخفاض درجة حرارة الجسم، ولهذا فإن الاستيقاظ مبكرا أو متأخرا لا يؤثر في نمط تغير درجة حرارة الجسم على مدار اليوم.

يقول كونراد يانكوفسكي، عالم النفس بجامعة وارسو، ببولندا إن "درجة حرارة الجسم لدى الأشخاص الذي اعتادوا على الاستيقاظ مبكرا تصل إلى ذروتها في وقت مبكر إلى حد ما من اليوم مقارنة بغيرهم ممن اعتادوا على السهر. ولكن هذا الفارق الزمني لا يتعدى بضع ساعات".

وقد يؤدي ارتفاع درجة حرارة الجسم، الذي تسببه تغيرات فسيولوجية طبيعية يوميا، إلى زيادة التفاعلات الكيميائية في القشرة المخية لإنتاج الطاقة، وهذا من شأنه أن يعزز الوظائف المعرفية.

ويقول يانكوفسكي إن "بعض الدراسات أشارت إلى أن ارتفاع درجة حرارة الدماغ يحفز التواصل بين الخلايا العصبية وبعضها. ولهذا يسهم رفع درجة حرارة الدماغ بطرق اصطناعية، بما يزيد قليلا عن 37 درجة مئوية، في تعزيز الأداء العقلي، مع الحرص على عدم زيادة درجة الحرارة عن هذا المستوى لأن السخونة تؤثر على وظائف الدماغ".

ويضيف يانكوفسكي أن هناك علاقة وثيقة بين نمط النوم والتيقظ والذاكرة قصيرة المدى وحتى المجهود البدني، وبين التغيرات في درجة حرارة الجسم، ولكن ليس بشكل مباشر بالضرورة.

ويقول إن "الساعة البيولوجية هي التي تتحكم في الغالب في درجة حرارة الجسم وغيرها من الوظائف الفسيولوجية، فإذا راقبنا نمط التغير الذي يطرأ يوميا على درجة حرارة الجسم قد نتكهن بالوقت الذي سيتحسن فيه أداؤنا. فقد تزيد، على سبيل المثال، احتمالات ارتكاب أخطاء في الأوقات التي يداهمنا فيها النعاس أو نكون عاجزين عن التركيز والانتباه في الساعات الأولى من الصباح عندما تكون درجة حرارة الجسم منخفضة".

لا تحاول تغيير إيقاع النوم واليقظة

ومن الأفضل أن تؤدي المهام التي تتطلب بذل مجهود ذهني عندما تكون في قمة نشاطك الذهني، وهذا يتوقف على عاداتك في النوم والاستيقاظ، سواء كنت من محبي السهر أو الاستيقاظ مبكرا. لكن عليك أولا وقبل كل شيء أن تبتعد عن مشتتات الذهن، مع عدم الإخلال بالإيقاع اليومي المعتاد للنوم واليقظة.

ويقول يانكوفسكي "قد تلاحظ في الواقع أن الناس ينزعون دائما إلى تأدية المهام المرهقة ذهنيا التي تقتضي الابتعاد عن مشتتات الذهن عندما يكون الآخرون نياما. ولهذا يؤدي الأشخاص النهاريون الذين اعتادوا على الاستيقاظ مبكرا المهام الشاقة في ساعات الصباح الأولى قبل أن يستيقظ الآخرون، في حين يؤديها الليليون من محبي السهر بعد أن يأوي الجميع إلى الفراش".

وثمة إجماع على أنه من الأفضل أن تضع المهام المشحونة بالانفعالات، مثل تقديم عرض لمشروع أمام آخرين أو التعامل مع الخلافات، في بداية اليوم، وهذا يتيح لك الفرصة لتأدية سائر المهام التي تتطلب تركيزا ذهنيا بأعصاب هادئة وذهن صاف، لكن عليك أن تراعي أيضا الأوقات التي ينشط فيها أداؤك العقلي، بحسب نمط النوم واليقظة.

ويبدو أن أفضل طريقة لتهيئة الدماغ ليوم العمل تبدأ من الفراش.

http://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق