بجيوب مليئة ونَهَم كبير، ترسّخ دول الخليج وجودها في القرن الأفريقي بشكل لم تعهده من قبل. إذ تعيد فورة الاستثمارات الاقتصادية والعسكرية الجديدة رسم معالم الديناميات الجيوسياسية على جانبَي البحر الأحمر، مع تحوّل منطقتَين منفصلتَين سابقاً لتصبحا سريعاً منطقةً واحدة. ويقدّم بروزُ ساحة سياسية واقتصادية...
بقلم زاك فيرتين
بجيوب مليئة ونَهَم كبير، ترسّخ دول الخليج وجودها في القرن الأفريقي بشكل لم تعهده من قبل. إذ تعيد فورة الاستثمارات الاقتصادية والعسكرية الجديدة رسم معالم الديناميات الجيوسياسية على جانبَي البحر الأحمر، مع تحوّل منطقتَين منفصلتَين سابقاً لتصبحا سريعاً منطقةً واحدة. ويقدّم بروزُ ساحة سياسية واقتصادية مشتركة – على جانبَي إحدى الطرق التجارية الأكثر قيمة في العالم – فرصاً للتنمية والتكامل. غير أنّ مخاطر كبيرة تتمخّض عن هذا البروز أيضاً. فبالنسبة إلى الدول الأفريقية الهشّة على سواحل البحر الأحمر الغربية، لقد شكّل التزام جديد لقوى خارجية عنصراً منشّطاً ومضرّاً في الوقت عينه.
وفيما تسعى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا إلى توسيع نفوذها في القرن الأفريقي، تنقل معها أيضاً خصوماتها إلى منطقة تزخر بها أصلاً. وهي ليست القوى الخارجية الوحيدة التي تضع اليوم نصب عينيها هذه المنطقة التي كانت راقدة في السابق. فقد أسّست الصين مؤخّراً منشأتها العسكرية الخارجية الأولى في جيبوتي، على بُعد حوالي عشرة كيلومترات فقط عن القاعدة الأمريكية الوحيدة في أفريقيا، محوّلةً البحر الأحمر إلى مسرح ناشئ للمنافسة بين القوى العظمى. ويتوسّط القرنَ الأفريقي مضيقُ باب المندب، وهو معبر شحن ضيّق يمرّ من خلاله نفطٌ وغيره من الصادرات بقيمة مئات مليارات الدولارات الأمريكية بين أوروبا وآسيا والخليج. وتقع مباشرة قبالة المضيق شواطئُ اليمن، حيث لا تزال تستعر نيران إحدى الحروب الأكثر دماراً والمعارك بالوكالة الأكثر اتّقاداً في العالم.
في غضون ذلك، تشهد أنحاء القرن الأفريقي تغيّرات تاريخية. فتشهد أثيوبيا نموّاً اقتصادياً تتخطّى نسبته 10 في المئة وتمرّ بالمرحلة الانتقالية السياسية الأوسع التي شهدتها منذ أوائل التسعينيات. وتخلّصت إريتريا، المنبوذة منذ سنوات طويلة بسبب سجلّها المتعلّق بحقوق الإنسان، من نظام العقوبات الذي فرضته الأمم المتحدة عليها منذ عدّة عقود. وقد فاجأ الخصمان القديمان المواطنين والمشاهدين على حدّ سواء العام الماضي بمبادرتهما إلى التقارب. وبفضل الدعم الذي قدّمه التعاون الإقليمي الجديد، قد تتخطّى حكومة الصومال الاتحادية أخيراً مرحلة الخطر بعد عقود من انعدام الأمن. لكن يبقى الالتزام الخارجي مرهوناً بقدرة الدول الأفريقية على إدارة العلاقات غير المتكافئة مع دول الخليج الشريكة، فإمّا أن يساعد هذا الالتزام التغيّر الطويل الأمد في القرن الأفريقي أو يعيقه. وعلى هذه الدول الأضعف، التي يقيّدها وضع متقلّب محلّي أصلاً، أن تجد طريقة للاستفادة من الاستثمار من دون التخلّي عن سيادتها أو الانجرار إلى خصومات سياسية لا تعود عليها بالمنفعة.
وضعٌ جديدٌ في أفريقيا
تهافتت الدول الخليجية الثرية منذ العام 2015 على العقارات والأراضي على ساحل البحر الأحمر. فانتشرت الموانئ البحرية والمواقع العسكرية الجديدة مع استيلاء هذه الدول على مراكز استراتيجية في جيبوتي وإريتريا والصومال والسودان واليمن حتّى. وقد سعت هذه الدول الخليجية بشراسة للحصول على هذه المواقع كجزء من جهودها الأوسع لإعادة تحديد النظام الإقليمي وترسيخ وجودها كجهات مشاركة على الساحة العالمية.
وتتوقّع دول الخليج، وأبرزها الإمارات العربية المتحدة، أن تمكّنها الموانئُ التجارية الجديدة في القرن من أن تطال الطبقة الاستهلاكية المتنامية في أفريقيا. وتأمل أن تتيح لها هذه الاستحواذات، بالإضافة إلى الموانئ في اليمن، تحديد مستقبل التجارة البحرية في البحر الأحمر وغربي المحيط الهندي، ولا سيما أنّ استثمار الصين التجاري في المنطقة تنمو بسبب مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها. ولمصلحة الدول الخليجية في المنطقة شقٌّ عسكري أيضاً، فقد أسّست منشآت تلاحق من خلالها الحرب في اليمن على المدى القصير وتحمي المصالحَ الأمنية الإقليمية من بعض التهديدات، مثل إيران والتطرّف العنيف، على المدى البعيد. نهايةً، تشكّل الأرض والشراكات مع الدول الأفريقية التي تتعامل معها عقبةً أمام الأخصام في وقت يسود فيه التوتّر بين الدول العربية الخليجية. (فقد قطعت البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع قطر وفرضت حصاراً تجارياً عليها في العام 2017).
وحتّى الآن، أفاد الالتزام الخليجي والتركي بشكل عابر بعضاً من الدول الأفريقية وعزّز الاستقطاب في دول أفريقية أخرى. فقد دعم مثلاً ضخّ المال الإماراتي في أثيوبيا أزمة الدين الخطيرة في البلاد بشكل مؤقّت، ممّا أتاح تمديد فترة النعيم لرئيس وزرائها الجديد آبي أحمد علي. ونجح ابن الاثنين والأربعين عاماً، القائد الأفريقي الأصغر سناً، بالتحايل على حرس البلاد القديم وهو يفكّك سريعاً الدولة الأمنية التي بنوها، وذلك من خلال إنهاء حالة الطوارئ والإفراج عن آلاف السجناء السياسيين وتخفيف القيود على الإعلام وحرّية التعبير وغيرها من الإصلاحات. ويخطّط آبي أيضاً لخصخصة أهمّ القطاعات وقد عيّن عدداً لا سابق له من النساء في مناصب عليا، فاستمال القلوب والعقول في بلاده وخارجها.
غير أنّ الحماس الشديد المعروف بـ”جنون آبي” سيخفّ نتيجة العقبات التي تلاقيها أجندة التغيير الخارجة عن المألوف التي ينتهجها آبي، بما فيها الاضطراب الحالي المنتشر في الكثير من المناطق الإثنية في أثيوبيا. ويعتمد استقرار البلد الذي يضمّ مئة مليون شخص على قدرة آبي على السير قدماً بهذا البرنامج الإصلاحي الطموح، فيما يلبّي المطالب الشعبية ويُسكت الأصوات المشكّكة ويبدّد مشاعر عدم اليقين السائدة. بالتالي، قد يكون من الحكمة أن تخفّف الدول الخليجية من نَهَمها وتتحلّي بالصبر وتحجم عن إقحام الانقسامات الخليجية في بيئة متقلقلة أصلاً. وقد اتّخذ آبي قراراً حكيماً من ناحيته بأن يرفض الوقوف إلى جانبٍ واحد في خلال الأزمة الخليجية الحالية. صحيحٌ أنّ آبي قَبِل بدعم الإمارات العربية المتحدة وشراكتها (بما فيها استثمارات إضافية متعهَّد بها بقيمة مليارَي دولار أمريكي)، فقد خطا خطوات حذرة في العلن، مدركاً أنّ اعتباره متعاملاً مع أبوظبي أو الرياض سيقوّض موقعه في الداخل.
وفي إريتريا المجاورة، استفاد الرئيس أسياس أفورقي بشكل أوضح من الالتزام الخليجي، أقلّه على المدى القريب. فقد ساعدت استثمارات جديدة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على نفخ الحياة في نظامه المعزول منذ زمن. فعندما انضمّ التحالف السعودي الإماراتي إلى الحرب في اليمن في العام 2015، احتاج إلى موقع متقدّم في البحر الأحمر ليطلق منه الحملات الجوية والبحرية، فاختار مدينة عصب الإريترية الساحلية ليحوّلها إلى قاعدة عسكرية ضخمة. وبعد التداعي الكبير للعلاقات مع جيبوتي حول تشغيل مينائها الأساسي، تحرص أبوظبي أيضاً على إعادة تفعيل ميناء عصب التجاري المتوقّف عن العمل وجعله حبل السلامة الأوّلي لأثيوبيا، الثقل الاقتصادي في المنطقة.
وقد ساعدت أيضاً علاقة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الجديدة مع إريتريا على إزالة نظام العقوبات الذي فرضته الأمم المتحدة على إريتريا وتسهيل التقارب الأوّلي بين أسمرة وأديس أبابا. ودعا بعدها النظامان الملكيان أفورقي وآبي للاحتفال بالوفاق التاريخي من خلال استضافة حفلات ملكية في جدّة وأبوظبي. غير أنّ التطبيع بين البلدَين الأفريقيَّين قد بدأ للتوّ. وعلى الرغم من بروز سبب للتفاؤل، على القادة الخليجيين أن يعيروا انتباهاً شديداً للحسابات السياسية المحلّية التي تحفّز التقارب ولمخاطر التحرّك أسرع من اللازم. إذ ينبغي التفاوض بعد على مجموعة من المسائل الشائكة، ولن يتأقلم الخصمان السياسيان القديمان والعملاء بالوكالة المسلّحون بسهولة مع الوقائع الجديدة. وينبغي على قادة دول الخليج الحذر أيضاً من الاستثمار كثيراً في أفراد بدلاً من الاستثمار في مؤسّسات، فلطالما كان أفورقي الشخصية الأكثر تقلّباً في المنطقة، وهو يواجه الآن في الداخل حالات سياسية متقلّبة بشكل متزايد. ومن دون خصم خارجي في أثيوبيا لمحاربته، قد تكون أخيراً قبضته الاستبدادية التي دامت عقوداً طويلة عن إريتريا في تراخٍ.
وفيما أفضى الالتزام الخليجي في أثيوبيا وإريتريا إلى نتائج متباينة، تُظهر تجربة الصومال بوضوح قدرته التقسيمية. فقد تدخّلت المملكة العربية وتركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة بالساحة السياسية في مقديشو في السنوات الأخيرة، آملةً كسبَ حلفاء واستثمارات وبسط َنفوذها على الخطّ الساحلي الأطول غي أفريقيا. وقد زادت التدخّلات المفرطة والرشاوى والقدح المتبادل بين الدول الخليجية من الانقسامات في بلد مشاكس أصلاً.
ويسبق الوجود التركي في الصومال وجود الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، وقد رحّب الكثير من الصوماليين به. فقد بدأت أنقرة بإرسال إعانات إنسانية إلى الصومال في خلال المجاعة في العام 2011 واستثمرت مبالغ طائلة في البلاد منذ ذلك الوقت. وتخشى دول الخليج ومصر أن تكون تركيا قد وطّدت التزامها مع الصومال والسودان بهدف بسط النفوذ التركي في أنحاء الأراضي التي شكّلت الإمبراطورية العثمانية سابقاً.
بالمثل، استثمرت الإمارات العربية المتحدة في تحالفٍ في مقديشو. لكن في العام 2018، صادر الرئيس الصومالي محمد عبد الله محمد (“فرماجو”) طائرةً مليئة بأموال إماراتية على مدرج المطار في مقديشو واتّهم الإمارات العربية المتحدة بالتدخّل وعكف عن اختيار جانب واحد في الانقسام الخليجي. وخوفاً من أن يكون فرماجو منحازاً إلى قطر وتركيا، انقلبت أبوظبي على الرئيس وقدّمت الدعم لأخصامه في الولايات الصومالية الاتحادية وزادت من الصفقات التي أبرمتها مع المسؤولين المحلّيين في منطقتَي صوماليلاند وبونتلاند المستقلّتَين من أجل إنشاء قاعدة عسكرية أخرى وميناءَين جديدَين. فاعترضت مقديشو بشدّة، فيما أعلنت الولايات المستفيدة دعمها للرباعي العربي، ممّا فاقم من حدّة التوتّرات بين وسط البلاد وأطرافها.
ساحة معركة خطرة
زادت منافسةٌ جديدة بين القوى العظمى من تعقيد اللعبة الحامية في البحر الأحمر. فمع قاعدة الصين العسكرية في جيبوتي، وصل عدد الجيوش الأجنبية في الدولة المدينة الصغيرة إلى خمسة. وتتموضع الصين وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة جميعها الآن في هذه النقطة المحورية في البحر الأحمر. وقد أعربت الهند والمملكة العربية السعودية أيضاً عن اهتمامهما بإنشاء قواعد في جيبوتي، التي لطالما كانت الموقع الذي يضمّ الميناء الوحيد للمياه العميقة في المنطقة، فيما باشرت روسيا بمحادثات مع إريتريا حول وجودها الاستراتيجي في البحر الأحمر.
وتسبّبت اهتمامات الصين المتزايدة في جيبوتي، بالإضافة إلى منشأتها البحرية الجديدة، ببروز حالة من القلق في الكونغرس والبيت الأبيض حيث تعمل إدارة ترامب المركّزة بشكل متزايد على الخصومة بين القوى العظمى على إعادة النظر الآن في وضعها العسكري في أفريقيا. وتُعدّ إعارةُ واشنطن أهمّيةً أكبر لهذه المنطقة أمراً جيّداً. لكن على الرغم من أنّ الاعتبارات الاستراتيجية تشكّل مسألةً حسّاسة، لا يجدر بالسياسة الأمريكية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر الأوسع أن تتأثّر بالكامل بالخصومة مع بكين.
يمكن للدول الخليج والأفريقية أن تستفيد من التزام جديد، في ظلّ إدارة سليمة على جانبَي البحر الأحمر. فتستطيع الدول الأفريقية بشكل خاص أن تستفيد من الاستثمار والمساعدة لتحسين البنية التحتية وخلق الوظائف ودخول الأسواق العالمية فيما تحاول تحديث اقتصاداتها. وقد دعا حتّى بعض الدبلوماسيين الإقليميين إلى إقامة منتدى للبحر الأحمر، وهو عبارة عن تحرّك جماعي يعمل لضمان أمن المعابر المائية في المنطقة وضبط الهجرة وتحقيق الأمن الغذائي ومحاربة التطرّف وإدارة الصراعات والنزوح.
غير أنّه من المستبعد أن يتحقّق هذا السيناريو الممتاز المتعلّق بالبحر الأحمر قبل نضوج عدد من العمليّات. فعلى الدول في القرن الأفريقي أن تُجري إصلاحات محلّية وتكاملاً إقليمياً لكي تتمكّن من التحدّث عن مصالح مشتركة ومن التفاوض مع دول الخليج الشريكة على قدم من المساواة. وحريٌّ بالدول الشرق أوسطية المتنافسة، التي يفتقر كلٌّ منها إلى ما يكفي من القوة لتحقيق هيمنة كاملة، أن تحلّ أخيراً الأزمة العربية الخليجية، أو على الأقلّ أن تخفّف من حدّتها. وينبغي بالولايات المتحدة والصين تفادي الصدام حول التوتّرات الحالية وتحقيق نوعٍ من التوازن في المنطقة. غير أنّ أيّاً من هذه الاحتمالات مضمون. فمن دون تقدّم على كلّ جبهة من الجبهات، ستبقى منطقة البحر الأحمر التي يتزايد فيها الازدحام والعسكرة ساحةَ معركة خطرة.
اضف تعليق