أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التموضع في موقع وسيطٍ أساسي في السياسة العراقية في مجال الطاقة الأسبوع الماضي، في حين تعرّض وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون للتأنيب من الحكومة العراقية على خلفية تصريحاته عن "وحدات الحشد الشعبي" العراقية.
نظراً إلى تاريخ الولايات المتحدة وما تمتلكه من مصالح وحضور في العراق، يبدو من المبالَغ فيه القول بأن روسيا قد تتقدّم عليها في ذلك البلد، وفق ما أشرنا إليه في عمود "الأسبوع في نشرة" الأسبوع الماضي. لكن في حين يخطّط بوتين لكل خطوة مع إبقاء إيران والمشهد الإقليمي المتحوِّل تحت أنظاره بطريقة حذرة ومدروسة، تحدّ الولايات المتحدة من خياراتها عبر التعاطي مع كل خطوة إيرانية من منطلق أنه تحرّك عدائي ويندرج في إطار المواجهة بين غالب ومغلوب، ما يثير غضب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي يفضّل ألا تستخدم الولايات المتحدة وإيران بلاده مسرحاً للعداوة بينهما.
إذاً في الأسبوع نفسه الذي تعرّض فيه تيلرسون للتوبيخ من مكتب العبادي على خلفية تصريحه بأنه على "الميليشيات الإيرانية في العراق" أن "تعود إلى ديارها" – وصفَ البيان الصادر عن رئيس الوزراء "وحدات الحشد الشعبي" بـ"الوطنيين العراقيين" – وقّع العراق وروسيا بروتوكولاً واسعاً في مجالَي الطاقة والاقتصاد. فتح الاتفاق الباب أمام إجراء نقاشات حول اعتماد شروط أكثر مؤاتاة للشركات والمتعاقدين الروس في العراق، في قطاعات مصانع الكهرباء والطاقة المائية، وحقول النفط والغاز، والمعدات والإمدادات. وتطرق البروتوكول إلى قيام روسيا بمنح قروض ميسّرة دعماً لهذه المشاريع شرط اضطلاعها بالدور الأول في إنشاء المصانع والعمليات وإدارتها.
إلى جانب البروتوكول العراقي-الروسي، أعلنت شركة "روزنفت" الروسية أنها ستبدأ التنقيب والإنتاج الأوّلي في الحقول المملوكة منها في كردستان العراق، الأمر الذي شكّل عنصر تشنّج محدوداً خلال زيارة وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري إلى موسكو من 23 إلى 25 تشرين الأول/أكتوبر، وفق ما أوردت ماريانا بلينكايا.
غير أن إعلان "روزنفت" شكّل مجرد تشويش صغير، فالعنوان الرئيس هو أن بوتين عمد، من خلال الخطوتَين، إلى إعادة ضبط علاقاته في شكل كامل مع العراق، كما توقعنا في عمود "الأسبوع في نشرة" الأسبوع الماضي. تقبل روسيا بأن تمر الإجراءات المتعلقة باتفاقات الطاقة عبر بغداد، مع أنها ستحتفظ بورقتها الضاغطة التي يؤمّنها لها التعامل مع حكومة إقليم كردستان التي تستمر القوات الاتحادية العراقية في كبح دورها ونفوذها.
كتبت بلينكايا: "عقدت روسيا اتفاقاتها مع كردستان، ولذلك سوف تتفاوض مع أي طرف يمكن أن يمارس تأثيراً في الأوضاع – بما في ذلك بغداد وإربيل، وربما أنقرة أو طهران. إنما ما يدور بين موسكو وبغداد أكبر بكثير من خلاف بغداد مع كردستان. تحتاج بغداد إلى استثمارات خارجية لبث الحياة من جديد في الأراضي التي تضررت في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولذلك من المؤكّد أنها لن تمارس ضغوطاً على موسكو للاختيار بينها وبين إربيل. يناقش العراق وروسيا التعاون في مجالات متنوّعة، مثل الكهرباء، والصناعة، والزراعة والبناء. ويتعاونان عن كثب في مجال التكنولوجيا العسكرية. فقد وقّعا في العام 2014 عقد تسلّح تفوق قيمته أربعة مليارات دولار أميركي. ويتولى اختصاصيون روس تعليم ضباط عسكريين عراقيين وتدريبهم".
أضافت بلينكايا أن العراق "يثمّن كثيراً أن روسيا تحترم سياساته الداخلية والخارجية، ولا تطالبه أبداً بالعمل مع بعض البلدان والامتناع عن العمل مع بلدان أخرى. لدى موسكو وبغداد الآراء نفسها حول المعركة ضد الإرهاب وكذلك الحرب الأهلية السورية. تشقّان طريقهما بالأسلوب نفسه بين مركزَي القوة في الشرق الأوسط – طهران والرياض – في محاولة منهما لتجنّب السجال".
تؤدّي المقاربة الأميركية الحازمة في التعامل مع العبادي إلى وضع مزيد من الصعوبات والعراقيل أمام سعيه لإرساء توازن بين الولايات المتحدة وإيران في العراق. التأثير الإيراني في العراق، بما في ذلك في منطقة كركوك، لا يُضاهى كما أنه في نمو مستمر. كتب فاضل هورامي: "يقول السّكان الأكراد المحليّون وقيادة الاتّحاد الوطني الكردستاني على حدّ سواء إنّ إيران لها تأثير لا يضاهى على التركمان الشّيعة في المنطقة [كركوك]. الحاج علي إقبال بور هو مسؤول رفيع في الحرس الثّوري الإيراني يُقال إنّه أدّى دوراً أساسياً في منطقة كركوك في العقد الماضي على الأقلّ، ويعرفه السّكّان المحليّون في طوز خورماتو باسم السيد إقبالي".
كتبت أمبرين زمان: "تركت تركيا متّسعاً كبيراً من المبادرة لإيران" في العراق، مضيفةً أنه "لا يزال غير واضح إذا كانت أنقرة ستدعم مزيداً من التحرك العسكري ضد الأكراد عند حدودها، بيد أن المسؤولين الأتراك لم يخفوا رغبتهم في رؤية بغداد تعيد فرض السلطة الاتحادية في مناطقها الحدودية، وطرحوا خططاً متنوعة لهذه الغاية".
في 29 تشرين الأول/أكتوبر، سيطرت القوات الاتحادية العراقية على معبر فيشخابور الحدودي الذي يشكّل محطة حيوية لصادرات الطاقة العراقية. لم يُظهر العبادي، في فيشخابور وأماكن أخرى، اهتماماً كبيراً بالتوصل إلى تسوية مع حكومة إقليم كردستان، وسعى بدلاً من ذلك إلى الحصول على إبطال تام لنتائج الاستفتاء، وإلى فرض سيطرة عراقية دائمة على موارد ومنافذ الطاقة في الإقليم.
بعد الاستفتاء الكارثي على الاستقلال والتقدّم الجريء للقوات العراقية، وجد رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، نفسه مضطراً إلى تقديم استقالته في 29 تشرين الأول/أكتوبر. وقد دعا البارزاني، الذي سيستمر في قيادة المجلس السياسي الأعلى في الإقليم، إلى تقاسم صلاحياته بين رئيس الوزراء ومجلس النواب والقضاء. كتبت زمان في مقالها الأسبوع الماضي، أن العمل كان جارياً من أجل التوصل إلى نقل للسلطة ينقذ ماء الوجه، ومن شأنه أن يقود، إلى جانب تنحّي البارزاني من منصب الرئاسة، إلى "تسليم السلطة إلى ابن شقيقه، نيجيرفان البارزاني، رئيس وزراء إقليم كردستان".
لقد سعى "الحزب الديمقراطي الكردستاني" برئاسة البارزاني إلى حشد الدعم من الأنصار ومن الأصدقاء الأميركيين عبر القول بأن خطوات العبادي عبارة عن مبادرة من الحشد الشعبي "المدعوم من إيران"، وعبر الزعم بأن خصمه، "الاتحاد الوطني الكردستاني"، "باع نفسه" لطهران. في حين أن البعض قد يدعم هذه الشعارات، جوهر الموضوع أن البارزاني أصبح عائقاً أمام إعادة تأهيل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بعد الاستفتاء. أما إذا كان نيجيرفان قادراً على حشد قاعدة جديدة من المناصرين، فيبقى سؤالاً مفتوحاً. وسوف يكون برهم صالح، الذي تولى سابقاً منصبَي رئيس وزراء إقليم كردستان ونائب رئيس الوزراء العراقي، من اللاعبين النافذين الآخرين، فقد حجز لنفسه مكانة مستقلة، فضلاً عن إقامته روابط وثيقة مع القيادة العراقية والولايات المتحدة وإيران، وفق ما أورد فاضل هورامي الشهر الفائت.
يلفت جنكيز جندار إلى أن مسار الأحداث في العراق قد يؤدّي إلى إضعاف النفوذ التركي بدلاً من تدعيمه، لا سيما بالمقارنة مع النفوذ الإيراني. ويستعيد التعليقات الازدرائية التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن العبادي قبل عام، عندما رفض أردوغان مطالبات رئيس الوزراء العراقي بسحب القوات التركية من بعشيقة في العراق، ويشير جندار في هذا الصدد إلى أن "هذا الكلام القاسي تخطّى الحدود إلى درجة كبيرة. لو تفوّه أي رئيس دولة بمثل هذه التصريحات في القرن التاسع عشر، كانت لتشكّل ذريعة للحرب. ... لكنهما جلسا وجهاً لوجه هذا الأسبوع في أنقرة، وكانا أشبه بندَّين، وبدا أن بينهما تضامناً كاملاً في مواجهة رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني – الذي كان صديقاً لأردوغان وشريكه في الصفقات النفطية في ما مضى".
للأزمة حول كركوك تداعياتٌ أيضاً على اتفاقٍ في مجال الطاقة جرى التوصل إليه بين إيران وروسيا وتركيا في آب/أغسطس الماضي. كتب أولغو أكوموش أن التحرك العسكري للقوات العراقية "تسبب على الفور بتباطؤ عمليّات نقل النفط في خطّ أنابيب كركوك-جيهان، ما فتح هوّة في السوق الإقليميّة قد تستفيد بسهولة من الصفقة المشتركة بين إيران وروسيا وتركيا التي أُعلِن عنها في آب/أغسطس والتي تقضي باستغلال موارد النفط والغاز الإيرانيّة. والسؤال الذي يُطرح الآن هو كيف ستصمد هذه الصفقة، نظراً إلى القيود والتهديد بفرض عقوبات على إيران، وقضيّة رضا زراب المطروحة راهناً في نيويورك، وهو رجل أعمال تركيّ متّهم بمساعدة إيران على التهرّب من العقوبات".
أضاف: "بينما ترتفع حدّة التوتّر بين إربيل وبغداد بشأن مصادر الطاقة في كركوك، تمهّد الطريق أمام زيادة الصادرات النفطيّة الإيرانيّة، وتبادل العملات، وتطبيق برنامج النفط مقابل السلع، وأمام تعاون أكبر في المجال المصرفيّ – وجميعها تدلّ على بذل جهود جديدة للتصدّي للعقوبات الأميركيّة بعد نسف اتّفاق تجارة الذهب بين تركيا وإيران. وإنّ العنصر الأكثر وضوحاً في هذا السياق هو صفقة ستدعم بلا شكّ الجهود التي تبذلها إيران من أجل تحقيق هدفها التصديريّ الطموح المتمثّل بتوقيع عقود نفط وغاز تتراوح قيمتها بين 50 و60 مليار دولار مع شركات أجنبيّة بحلول 20 آذار/مارس، أي نهاية السنة الإيرانيّة الحاليّة".
ليس مفاجئاً إذاً أن كل الأنظار ستكون شاخصة إلى بوتين الذي يزور طهران في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر لعقد لقاء قمة ثلاثي مع الرئيسَين الإيراني حسن روحاني والأذربيجاني إلهام علييف.
اضف تعليق