جمهور لا يلتفت للفضائح
عانى الرئيس الاميركي ترامب من ازدراء مواقع تأثير تقليدية في أركان المؤسسة الحاكمة، ومنابرها الاعلامية بشكل رئيس، منذ بدء حملته الانتخابية؛ ولا زال يدفع الثمن السياسي لفوزه الذي فاجأ كافة التيارات والقوى، بما فيها ترامب وفريقه. هو لا يترك مناسبة إلا ويذكر الجمهور بخطأ حسابات وتوقعات الأخطبوط الإعلامي، محفزاً انصاره ومؤيديه الى الاقلاع عن اللحاق بركب سردية المؤسسة الرسمية يتهمها بالفبركة والتزييف.
استغلت المؤسسة الإعلامية بعض الثغرات في تصريحات وأقوال الرئيس ترامب كمؤشر على تدهور شعبيته، بتسخيرها السلاح الأقوى في الوعي الجماعي – استطلاعات الرأي بكل ما يرافقها من دوافع سياسية مرجوة، فضلا عن عدم حصافة وغياب المصداقية عن بعضها المتداول.
للدلالة، تلجأ مؤسسات إستطلاع الرأي الخاصة الى عينة عشوائية من اصحاب الرأي استناداً لمواصفات مسبقة ومعدة بعناية. يشار ايضاً الى التقسيم الاداري والانتخابي الذي طرأ على الخريطة الانتخابية منذ آخر احصاء سكاني، عام 2010، وتوزيع الناخبين على دوائر تحابي الحزب الجمهوري في مناطق الكثافة السكانية، ثمرةً لتخطيطٍ دقيق وتمويلٍ وفير. لذا فإن العينات المستطلعة تخضع أيضاً لتلك المواصفات وباستطاعة أي من المعنيين تطويع النتائج لتخدم أهدافاً محددة، في أغلب الاحيان.
مناسبة هذه المقدمة نتائج الاستطلاعات الأخيرة نُشرت نتائجها في الاسبوع الثاني من تموز الجاري، وتشير الى "ثبات مؤشر الرضى عن سياسات ترامب عند نحو 40 نقطة مئوية." واستطرادا، يمكن الاستنتاج بأن الأغلبية، نحو 60%، غير راضية عن ادائه. وتقفز معظم الوسائل الإعلامية عن حقيقة ارتفاع طفيف في "شعبية ترامب" في شهر شباط الماضي، من 16% الى 17.9%.
وانفردت اسبوعية نيوزويك، 12 تموز، بالإشارة الى "ارتفاع مؤشر الرضى عن سياسات ترامب بين صفوف مؤيديه ومناصريه." وواصلت أن منسوب الارتفاع الطفيف، 39,3%، او اعتراض الأغلبية، لا يعد استثناءً للقاعدة؛ ولم يسبقه لتلك النسب المتدنية إلا الرئيس الاسبق جيرالد فورد، بسب تداعيات فضيحة ووترغيت وملابساتها، لإصداره قرار العفو الرئاسي عن بطلها الرئيس المستقيل نيكسون.
حقيقة الأمر ان ترامب وحزبه الجمهوري تعرضا لنكساتٍ سياسية منذ مطلع العام الجاري أخذت فعلها في تشكيل الوعي العام: سيل لا ينقطع من الاتهامات بعلاقات مشبوهة لترامب مع روسيا؛ فشله وحزبه في الوفاء بوعد الغاء برنامج الرعاية الصحية الشامل – اوباماكير؛ مؤشرات مبهمة ومتباينة لتوجهات السياسة الخارجية؛ ملابسات قوانين الحد من الهجرة وما رافقها من تجليات وممارسات عنصرية فجة؛ والجدل الغاضب الذي رافق إقالة ترامب لمدير مكتب الأف بي آي، جيمس كومي.
يجهد المرء في ايجاد تفسير منطقي لثبات مؤيدي ترامب عند ذات النسبة التي فاز بها، تقريبا، بينما تضخ وسائل الاعلام بكثافة وتركيز عناوين واتهامات لترامب بعلاقات مشبوهة مع روسيا.
أحد أبعاد التفسير نجده في تباين نوعية التغطية الاعلامية الاميركية في الداخل مقابل ما تنشره في الخارج، شبكة سي أن أن بفرعيها المحلي والدولي. فضلا عن البون الواسع بين اهتمامات الشعب الاميركي، بشكل عام، والشعوب الأخرى التي تتأثر مباشرة بالسياسات الاميركية.
بعض تجليات نوعية المصادر الاخبارية التي يعتمد عليها الاميركيون نجده في استطلاع لأداء الشبكات الاعلامية، 26 حزيران – 2 تموز الجاري، مبيناً صدارة شبكة فوكس نيوز (اليمينية) بين المشاهدين وتفوقها على الشبكة الإخبارية الأولى، سي أن أن، التي جاءت في المرتبة الثالثة عشر. الاستنتاج المنطقي يقودنا الى أن الأغلبية تحجم عن مشاهدة ومتابعة القنوات الإخبارية الصرفة وتميل للارتكاز على شبكة فوكس فيما تطمح إليه من معلومات.
ويشير بعض الإعلاميين الى زاوية أخرى في تراجع شعبية الشبكة الرائدة في عالم التلفزيون مردها تصدرها للحملة السلبية على الرئيس ترامب، بعض سردياتها عانى من المبالغة وعدم الدقة؛ والأهم ما يجري تداوله من شريط مصور يضم عدداً من كبار منتجي برامج الشبكة عينها يقرون فيه بوعيٍ تام أن بعض برامج تغطية ترامب كانت كاذبة.
حال الشبكة المرئية ليس استثناءاً في بيئة إعلامية شديدة التنافس والاحتكار، وما ارتكبته من "أخطاء" تعرضت لها أيضا الوسائل المقروءة الكبرى: نيويورك تايمز وواشنطن بوست، دفعت أثمانها في تراجع أعداد قرائها وربما مدخولها المالي من الاعلانات.
منابر منظمة بتمويل وفير
الانكفاء النسبي عن وسائل الاعلام الرئيسة أدى بالجمهور المتابع الى الالتفاف حول منابر اليمين والمحافظين لتلقي الاخبار، لا سيما شبكة فوكس، التي سجلت مليوني مشاهد يوميا في الاسبوع الأول من الشهر الجاري، والى صحيفة واشنطن تايمز، فضلاً عن الانتاج الغزير في النشرات الاسبوعية والمدونات الالكترونية. يشار الى أن تلك المجموعة من الموارد الاعلامية التابعة لليمين تسير في فلك مهني منظم استطاعت التصدي بنجاح لحملات الاتهام للمرشح ترامب، وتعبئة قواعد مؤيديه.
اداء الوسائل الرئيسة انعكس سلباً عليها في قضايا سياسية حساسة. افادت نتائج استطلاع رأي مؤخراً ان نسبة 25% من الاميركيين تشك في خرق الرئيس ترامب للقوانين الاميركية، على خلفية اتهامه بالتعاون مع روسيا.
ارتفاع اعداد المشاهدين والمستمعين للوسائل اليمينية يضم ايضا شبكات وبرامج الراديو. من أبرز المعلقين وأشهرهم من المحافظين الاذاعي المخضرم راش ليمبو، اذ تصل دائرة جمهور مستمعيه الى 26 مليوناً في الاسبوع. بالمقابل، فإن أعلى نسبة جمهور برامج الراديو للتيار الليبرالي لا تتجاوز مليوني مستمع، وفق الاحصائيات المتوفرة.
يعد راش ليمبو الأب الروحي لبرامج الراديو الحوارية، ويستند الى خبرة طويلة شارف على اسدال الستارة عن 30 عاماً متواصلة في المهنة. برنامجه يُبث عبر 600 محطة راديو، لثلاث ساعات يوميا، من الاثنين للجمعة من كل اسبوع.
خطاب ليمبو اليمني يرسي بوصلة التوجهات السياسية بين اقطاب اليمين والمحافظين. في الانتخابات الرئاسية الأخيرة رفض ليمبو، مثلاً، الانسياق وراء المؤسسة الحزبية التقليدية وأحجم عن توجيه انتقادات للمرشح ترامب، بخلاف منافسيه الآخرين. الأمر الذي وحّد الناخبين الجمهوريين وعزّز والتفافهم وراء ترامب.
يعاون ليمبو في تشكيل الرأي العام عدد آخر من ركائز اليمين: المذيع شون هانيتي، الذي يظهر على شاشة فوكس وكذلك له برنامج إذاعي يصل الى مسمع 12.5 مليون متابع؛ غلين بيك، مارك ليفن، ومايكل سافج والذين يخاطبون جمهورا يتراوح تعداده بين 5 الى 7 مليون فرد.
كما أن موارد الشبكة الالكترونية جرى تسخيرها بفعالية عالية خدمةً لخطاب اليمين المحافظ. على سبيل المثال يعد درادج ريبورت الالكتروني مصدراً أساسياً للمتابعين، وهو عبارة عن ملخص للأنباء يجري اعداده من مصادر متعددة، يصل معدل زواره نحو مليار شهرياً. ويحرص الموقع على نشر روابط الأخبار والمحررين لفائدة جمهوره. يشار الى أن الموقع كان من أوائل الوسائل الإعلامية في نشر فضيحة الرئيس الأسبق بيل كلينتون مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي – "بعد قرار أسبوعية نيوزويك التحفظ على القضية.
هناك أيضا سلسلة من المواقع الالكترونية التي تندرج تحت امبراطورية اليمين، من أبرزها: انفو وورز، علامته التجارية الترويج لنظرية المؤامرة، يخاطب الجيل الناشئ بالدرجة الاولى ويصل جمهور متابعيه لنحو 5.5 مليون في الشهر؛ وكذلك بريتبارت الذي كان يرأسه مستشار ترامب ستيف بانون.
فعالية وشهرة المواقع أعلاه جاء ايضا على حساب المنابر التقليدية للمحافظين، لا سيما اسبوعية ناشيونال ريفيو التي تخاطب النخب الفكرية والثرية، تراجع جمهورها الى 2.7 مليون في الشهر. حافظت الاسبوعية على بقاء مسافة بينها وبين ترامب، بل انتقدت تصريحاته الشعبوية خلال الحملة الانتخابية.
الموارد المخصصة لتلك المنابر مجتمعة تخاطب الفرد الاميركي بالدرجة الأولى، ولا تكترث لمخاطبة الجمهور العالمي كما هو الأمر مع المنابر الرئيسة مثل شبكة سي أن أن وكبريات الصحف، نيويورك تايمز وواشنطن بوست. وهنا يكمن أحد عوامل فعاليتها في عصر صعود الخطاب الشعبوي والتقوقع الداخلي.
في السياق الأشمل، تمضي المؤسسة الحاكمة بأخطبوطها الإعلامي في تشكيل الرأي العام العالمي لخدمة المصالح الاميركية، ومن غير المتوقع ان يطرأ تغيير جوهري على ذلك البعد. أما في الداخل فقد برز اليمين المحافظ بقوة أكبر واتساع أشمل وموارد أوفر كقطب مركزي وهام في منظومة الاستراتيجية الاميركية العليا، يحشد مناصريه بفعالية للاصطفاف خلف مؤسسة الرئاسة، ويُؤمن حصانة غير معهودة لترامب من سيل الفضائح والتخبط.
اضف تعليق